عندما وصل خبر التتار إلى مصر كان الحاج ابن خلدون على هامش السياسة. كذلك لم يكن يتمتع بموقع مميز في القاهرة بعد عزله من قضاة المالكية للمرة الثانية. ولعبت المفارقات دورها في جرفه من جديد إلى قلب الحدث، ووضعته في موقف استثنائي يشبه ذاك الذي حصل في فترة وجوده في الأندلس وتكليفه بمفاوضة ملك قشتالة.
على رغم تشابه الموقف بين الحالين إلا أن ظروف المواجهة مع الفرنجة في الغرب (الأندلس) لا تقاس بظروف المواجهة مع المغول في الشرق (الشام). فالزمن تغير وابن خلدون تغير وأدوات القتال والمفاوضة تبدلت.
في إسبانيا كانت المواجهة بين الطرفين تتراوح بين كرّ وفرّ. واتبع الفرنجة أسلوب القضم والهضم ثم التقدم والقضم مجدداً، الأمر الذي كان يوفر مسافة زمنية بين فترة الحرب وفترة السلم ثم عودة اللاحرب واللاسلم واندلاع المواجهة مجدداً ثم التفاوض في ظروف متخالفة.
اختلفت المواجهة في الشرق عن تلك في الغرب. فالمغول قوة بشرية - عسكرية تتبع أسلوب الاقتحام والتدمير، ثم التقدم والاقتحام والتدمير من دون توقف. فالجمود بالنسبة لهم يعني انهيار المواقع وتفكك الجبهة والتراجع السريع.
اختلاف طبيعة العمليات العسكرية المغولية عن تلك الإفرنجية يعود أصلاً إلى اختلاف طبائعهم العمرانية وأهدافهم السياسية. الفرنجة كانوا يخططون للاستيلاء الهادئ على الأندلس فاستغرقت حروبهم عدة قرون من الزمن. بينما المغول لم يكن هدفهم الاستيلاء بقدر ما كان دافعهم مجرد الغزو في لحظة التجمع والانكفاء تجنباً للدخول في لحظات التفكك والضعف.
بسبب اختلاف طبيعة الحربين، على تشابه الحالين بالنسبة للمسلمين، اختلفت خطط المواجهة العسكرية كذلك أسلوب المسالمة والتفاوض.
شهد ابن خلدون الحربين وشارك في صوغ الأسلوبين (في حالات المواجهة أم في حالات المفاوضة) واختارته المصادفات ليكون الشاهد على الواقعتين.
الشاهد اختلف بدوره. فابن خلدون في فترة وجوده في غرناطة (765هجرية/ 1363م) كان في مطلع شبابه (33 سنة) ولم تكسر الأيام طموحه للجاه ونيل منصب الحجابة. لذلك رفض عرض ملك قشتالة بإعادة أملاك أهله في إشبيلية واكتفى بالوقوف على أطلال الجاه الضائع.
أما في فترة هجوم التتار الثاني (سنة 803 هجرية/ 1400م) على بلاد الشام كان ابن خلدون يعيش أيامه الأخيرة. فالحاج كبر في العمر (71 سنة) وانكسر خاطره وانهارت أحلامه وتحول من طالب جاه إلى طالب وظيفة يعيش منها وحيداً مع ذكرياته المؤلمة. مع ذلك كان على موعد مع الزمن ليكون الشاهد على تراجعين الأول في جبهة الغرب والثاني في جبهة الشرق.
وصل الخبر إلى مصر ومفاده أن تيمورلنك «خرَّب سيواس ورجع إلى الشام». وبدأ باقتحام مدنها وقلاعها واجتاح حلب «ووقع فيها من العيث والنهب والمصادرة واستباحة الحرم ما لم يعهد الناس مثله» (التعريف، ص 618).
بدأ صاحب مصر الجديد السلطان فرج ابن الملك الظاهر تجهيز القوات للمدافعة عن الشام. ففتح ديوان العطاء و «نادى في الجند بالرحيل إلى الشام، وكنت أنا يومئذ معزولاً عن الوظيفة، فاستدعاني دواداره يشبك، وأرادني على السفر معه في ركاب السلطان، فتجافيت عن ذلك» (التعريف، ص 618).
رفض ابن خلدون الذهاب لكنه كعادته عاد للموافقة بسبب خجله وعدم قدرته على قول «لا» عند الضغط عليه، وبعد أن أظهر دواداره «العزم عليَّ بليِّن القول، وجزيل الإنعام فأصخيت، وسافرت معهم» (التعريف، ص 618).
كان ذلك في سنة 803 هجرية «فوصلنا إلى غزة (...) ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الططر (...) وأسرينا فصبَّحنا دمشق، والأمير تمر (تيمورلنك) في عساكره قد رحل من بعلبك قاصداً دمشق» (التعريف، ص 618).
تخندق سلطان مصر في جوار المدينة وفشل تيمورلنك «من مهاجمة البلد» فأخذ «يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر» حصلت خلالها معارك صغيرة كانت سجالاً بين الطرفين. واستمر الأمر إلى أن وقع حادث ذكَّر الحاج بتلك المعارك في المغرب والأندلس فاستعاد شريطها واكتشف أن الزمن يدور دورته وما وقع هناك لابد أنه واقع هنا. إذ بينما كانت الحرب سجالاً بين الطرفين جاء من يخبر «السلطان وأكابر أمرائه، أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاول الهرب إلى مصر للثورة بها» (التعريف، ص 618). وهذا ما حصل مراراً في الأندلس إذ عندما تكون الحرب سجالاً وأحياناً تكون الغلبة للمسلمين، كما ذكر صديقه الوزير المؤرخ ابن الخطيب في رسالته عن الانتصارات، تنقلب المسائل وتتحول الحرب إلى اقتتال أهلي ويأخذ الأمراء بالتنافس والتنازع على السلطة فيحصل الانهيار وتتفكك الجبهة الداخلية. وكما حصل في الغرب واشتبك صاحب غرناطة السلطان ابن الأحمر مع أصحاب المغرب في عهد دولة بنو مرين تكرر الأمر نفسه في الشرق فأخذ أصحاب المدن وأمراء الشام (فتنة الناصري وبعدها بعشر سنوات فتنة الاتابك) يتحركون خيفة للاستيلاء على مصر مستغلين فترة وجود سلطانها في الشام للدفاع عن دمشق في وجه المغول.
هكذا فعل الخبر فعله إذ أجمع رأي أمراء جيش السلطان الرجوع «إلى مصر خشية من انتفاض الناس وراءهم واختلال الدولة بذلك» وأسروا ليلاً إلى القاهرة «وأصبح أهل دمشق مُتحيرين قد عميت عليهم الأنباء» (التعريف، ص619).
بقي ابن خلدون في الشام ولم ينسحب إلى مصر لكنه أدرك أن خيار الحرب سقط والمدافعة عن دمشق مغامرة عسكرية خاسرة ولم يعد من خيار آخر سوى المدافعة بالسلم واللجوء إلى المفاوضة لإنقاذ المدينة من دمار ماحق. و «جاءني القضاة والفقهاء واجتمعت بمدرسة العادلية واتفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر (تيمورلنك) على بيوتهم وحُرمهم» (التعريف، ص619). ورفض نائب قلعة دمشق خيار المفاوضة واختلف مع وفد القضاة والفقهاء فزاد وضع المدينة سوءاً بعد انقسام أهلها بين خيارين أحدهما يريد الحرب والآخر يريد المفاوضة.
مال الحاج إلى خيار المفاوضة فهو رجل مجرب ولا ينخدع بالمظاهر العامة والحماس العاطفي. فهو شهد خلال سنواته الطويلة عشرات المعارك بين كرّ وفرّ ودخل في مواجهات عسكرية ومفاوضات سياسية وعلمته التجربة قراءة موازين القوى في زمن «اعتلال الدولة» وعجزها عن المدافعة عن نفسها.
ابن خلدون طبعاً ليس استشهادياً على نمط الفقيه الحنبلي شيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هجرية) الذي ترك القلم وحمل السيف للدفاع عن المدينة في الغزوات الأولى. كذلك ليس مغامراً لأن منهجه التاريخي (قياس الحاضر على الماضي) يشير إليه بضرورة المفاوضة للحد من الخسائر. فالدولة عنده عندما تصل إلى مرحلة الشيخوخة لا تستطيع المغالبة ولابد من دورة انقلابية تعيدها إلى مرحلة الفتوة والشباب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3108 - الخميس 10 مارس 2011م الموافق 05 ربيع الثاني 1432هـ