العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ

الثورة المضادة والدهاء السياسي «التجربة المصرية» (1 - 2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

إن ثمة قوانين سياسية بمعنى قوانين علمية برزت من دراسة التطور التاريخي للعلوم السياسية والفكر السياسي، ومن بين تلك القوانين: إن الثورة تأكل أبناءها، إن السلطة السياسية تنجذب بعد فترة نحو السلطة الاقتصادية والعكس، وغيرها من القوانين العلمية ذات الصلة بالتطور السياسي توصل إليها علماء السياسة من دراستهم لتاريخ الشعوب وتطورها. ولعل من أهم القوانين هو القانون المعروف بأن لكل ثورة ثورة أخرى مضادة إعمالاً للقانون الفيزيائي لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.

وقد اعتمد قانون الثورة المضادة بوجه خاص على دراسة الثورة الفرنسية التي خلقت نوعين من الثورة المضادة لها أولاهما خارجي بتحالف الدول الأوروبية ضدها، وبخاصة إمبراطورية النمسا المجر، وبروسيا وروسيا وبريطانيا وعقدها معاهدة فيينا 1815 وبروز السياسة المعروفة باسم «الوفاق الأوروبي» Concert of Europe، ونظرية توازن القوى Balance of Power. وعبثاً حاول نابليون الحيلولة دون ذلك من خلال نظرية تأليف القلوب والشعوب عن طريق المصاهرة، ولكن زواجه من الأسرة الملكية العريقة «الهابسبرج» في إمبراطورية النمسا المجر لم يسفر عن شيء، لأن تعارض المصالح كان أقوى من التقارب الذي تخلقه رابطة المصاهرة.

أما الثورة المضادة الثانية فكانت داخلية في فرنسا ذاتها فرغم قيام الثورة وتحطيم سجن الباستيل أشهر السجون في العالم في ارتباطه بثورات الشعوب، فإن القوى الملكية الفرنسية سرعان ما عملت على لملمة شتات مصالحها ومؤيديها لكي تسترد النظام الملكي بعد سقوط نابليون، وظلت حالة الصراع الداخلي الفرنسي بين القوى المتعارضة زهاء خمسين عاماً حتى سقوط إمبراطورية نابليون الثالث.

وما نقصد إبرازه هنا أن مفهوم الثورة المضادة ليس شيئاً جديداً ولا اكتشافاً مستحدثاً ولا نابعاً من الهواجس والشكوك لدى القوى الثورية لثورة 25 يناير 2011، ولكن له جذوره التاريخية والمجتمعية لأن القوى القمعية المتجذرة في بنية المجتمع لن تستسلم بسهولة وسوف تظل تدافع عن مصالحها في مواجهة قوى التغيير الوافدة، خاصة في مجتمع مثل المجتمع المصري نجد الفكر الفرعوني عميق الجذور في الشخصية المصرية سواء من الثوريين أو أنصار النظام القديم، سواء من الحزب الحاكم أو الأحزاب المعارضة، فلم يحدث تداول للمناصب في القيادات العليا للأحزاب المعارضة، وأدى ذلك لحدوث انقسامات داخل كل منها، ولعلي أشير إلى أن النظام الحاكم السابق في مصر كان يعاني من الشيخوخة في كافة أجهزته وانسداد شرايينه انسداداً لم يترك فرصة للتغيير ولعب كثير من المثقفين ورجال القانون والسياسة والإعلام دوراً بارزاً في ترويج الفكر الاستبدادي وتحويل الحاكم من حمل وديع إلى أسد هصور. بل روّجوا لمفهوم التوريث في النظام الجمهوري بأساليب متنوعة ولعبت شجرة الدر دورها الخطير، في هذا المجال، باحتضان قوة المرأة، في حين لعب رجال الأعمال ولجنة السياسات دورهم في تطويع مفاصل النظام السياسي والجهاز الإداري بما في ذلك جهاز الأمن، وكادوا يصلوا إلى القوات المسلحة، التي لحسن الحظ ظلت هي الحصن الوطني الوحيد المنيع، ومن هنا كان سلوك القوات المسلحة في مواجهة ثورة 25 يناير/ كانون الثاني متسماً بالحياد الميال للتعاطف واحتضان مصالح الشعب، ولولا ذلك ما كان يمكن أن تكون ثورة 25 يناير بهذا النجاح وبهذا العمل السلمي لو كانت القوات المسلحة سيطر عليها قوة الحزب ولجنة السياسات، كما سيطر على مجلسي الشعب والشورى، وعلى وزارة الداخلية وغيرها من أجهزة الدولة، وللأسف حدث اختراق خطير لأجهزة القضاء رغم أن القضاء ككل بقى سليماً إلى حد كبير، ومن أكبر الاختراقات كان في الصحافة التي أطلق عليها صحافة قومية.

وعودة لمفهوم الثورة المضادة فإنه في تقديري ومن واقع متابعتي للتاريخ المصري عبر العصور ولأحداث ثورة 25 يناير، نجد أن الثورة المضادة هي حقيقة مماثلة، ولا يمكن إغماض الطرف عنها.

ولكن حدوث الثورة المضادة ليس فقط من أحشاء النظام القديم، وإنما أيضاً من أحشاء ثورة 25 يناير ذاتها وهذا هو الأخطر، وذلك لثلاثة اعتبارات:

الأول: إن شباب الثورة الذين قادوها من 25-28 يناير 2011، بوجه خاص قبل بدء محاولة الانقضاض عليها، من فلول الحزب الوطني في عملية قمع وحشية عبرت عن نفوس بلغت أقصى درجة من الاستبداد وعدم الإنسانية فيما أطلق عليه موقعة الجمل والحمار في ميدان التحرير، نقول إن هؤلاء الشباب بنواياهم الطيبة وبحماسهم ما كان لحركتهم أن تنجح وتتحول إلى ثورة حقيقية لولا ثلاث قوى مساندة لها، الأولى قوة الشعب الذي بلغ به اليأس مبلغه، ولذلك بادر لمساندتها بعفوية وتلقائية لأنه وجد فيها الأمل للخلاص من حالة اليأس والإحباط، الثانية قوة الجيش الذي تحرك وتواجد في الميدان وغيره من مناطق الدولة، وحافظ على النظام، وحرص على الحيلولة دون أي قمع أو عنف ضد الثوار، وحمايتهم وكذلك حماية المناطق السكانية. هذا الحياد المشوب بالانحياز من الجيش نحو الثورة كان عنصراً من عناصر الحسم لمصلحة الثوار. الثالثة قوة الأحزاب السياسية المعارضة وبخاصة جماعة الأخوان المسلمين من ناحية، لوجود قواعد جماهيرية وأسس تنظيمية لها، والأحزاب الأخرى الليبرالية واليسارية والتقليدية لوجود شخصيات مثقفة ومفكرين ذوي ثقل بين صفوفها. هذه القوى الثلاث مع قوة الشباب المعتمد على وسائل الاتصال الحديثة تحالفت معاً لإنجاح الثورة.

ولكن عملاً بقانون «أن الثورة تأكل أبناءها»، بدأ الصراع بين القوى الحزبية بعضها البعض ومع شباب الثورة، وسعت بعض تلك القوى للسيطرة على الثورة من خلال ثلاثة أساليب:

الأسلوب الأول: رفع شعارات تصاعدية ومتطرفة وهذا اجتذب شباب الثورة الأنقياء لأنهم شعروا بقوتهم إثر انهيار دعائم النظام القديم واحدة تلو الأخرى بسرعة مذهلة.

الأسلوب الثاني: رفض كافة مقومات النظام القديم والدعوة للإطاحة به، وهذه الأطروحة تذكرنا بأطروحة التحكيم، ورفع المصاحف، وهي الخدعة التي اقترحها جند معاوية بن أبي سفيان في مواجهة جند علي بن أبي طالب، واختيار المحكمين حيث قام عمرو بن العاص بخديعة ذكية لأبي موسى الأشعري.

نقول إن خدعة رفع المصاحف والاحتكام للقرآن، كانت من أكبر الخدع التي استخدم فيها الدين ورموزه القوية، وهي المصحف الشريف، لغرض سياسي غير نبيل بل خبيث. وهكذا حدثت الفتنة في صدر التاريخ الإسلامي، وحدث الشقاق المعروف، ولعل من أحسن من قدم تحليلاً لذلك هو الدكتور طه حسين في كتابيه «الفتنة الكبرى» الذي صدر في جزئين. نقول إن أحد أساليب الثورة المضادة هي طرح شعارات ظاهرها الصدق وباطنها الخبث. ولعل من أحدث تلك الأساليب والممارسات المعاصرة، هو ما قام به الحاكم العسكري الأمريكي للعراق «بول بريمر» الذي استغل كراهية العراقيين لصدام وقمعه وحزبه، فألغى الجيش والبوليس، وحل الحزب والوزارات، وهكذا أصبحت العراق بلا حكومة ولا إدارة ولا أجهزة للحفاظ على الأمن أو لحماية الوطن، وأصبح الحاكم العسكري الأمريكي هو الحاكم المتفرد في العراق، ومن ثم نهب كثيراً من ثرواتها ومتاحفها.

وقدم نظريته المعروفة بعد ذلك في اجتثاث البعث، وهي نظرية أيضاً ظاهرها الصواب وباطنها الخبث، فالشعب العراقي طوال فترة حكم صدام كان بعثياً حقيقياً أو بعثياً لمصالحه، ولم تكن هناك معارضة حقيقية إلا القليل، والتي بدورها لجأت للخارج، وأصبح معظمها يعمل مع كثير من الأجهزة الأمنية الأجنبية بحكم الضرورة أو بحكم الانتهازية، ومن ثم فإنه في الحالتين لم يختلف كثيراً عمن بقى تحت حكم صدام وأصبح بعثياً بالضرورة أو بالاقتناع – ولن نتناول ذلك تفصيلاً، وإنما نشير إلى هذه الأطروحة لكي نحذر من مخاطر الانسياق في الشعارات والمطالب المشروعة شكلاً، والخطيرة مضموناً، ودور قوى الثورة المضادة في هذا الصدد. فمثلاً طالب البعض بإقالة رئيس الوزراء أحمد شفيق دون سبب مقنع، سوى أن الذي عينه حسنى مبارك، ونفس الشيء بإقالة النائب العام ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات. ومن ثم المساس بأكبر القوى التي تعمل في المرحلة الانتقالية، وهي الإدعاء العام الذي يضطلع بمهمة تقديم الفاسدين للمحاكمة، وصاحب المستندات الحقيقية، وهو الدكتور جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، والذي كان العدو اللدود للحزب الوطني في عنفوانه، من خلال تقاريره الدقيقة إلى حد كبير، ووفقاً لما هو مسموح به. وبقوة الإدارة التي عبر عنها أحمد شفيق، الذي أثبت كفاءة إدارية، ولم يكن جزءاً حقيقياً أو متورطاً في لجنة السياسات أو الشلل المسيطرة في عهد مبارك. الأهم هو أن كل هؤلاء يمثلون مرحلة انتقالية تضمن الانتقال السلس والسلمي للسلطة. فإذا أطيح بهؤلاء وأمثالهم من الشرفاء، لمجرد أن حسني مبارك هو الذي عينهم، فإن ثمة مخاطر لانتقال الحالة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي إلى مصر، ومن ثم دخول مرحلة من الفوضى ربما تمتد إلى 5 سنوات، وبروز القوى المضادة المعادية للثورة وهو ما سنعرض له لاحقاً.

الأسلوب الثالث: هو سعي أية قوة من الأحزاب السياسية أو الأخوان المسلمين لاعتلاء مطية ثورة 25 يناير. وهنا نشير إلى ثلاثة حقائق، الأولى: إن كل هذه الأحزاب والإخوان المسلمين ينتمون للعهد القديم، وهم فلول تاريخ مصر ما قبل ثورة 1952 وما بعدها، وأحزاب أخرى هي أحزاب أنابيب أنشأها الحزب الوطني لإعطاء الشكل الديمقراطي، وهي ليست أحزاب حقيقية، فهي بلا قواعد، وبلا برامج، وبلا فكر. فلو أخذنا بمنطق الاستبعاد فإن الجميع ينبغي استبعاده، ثم إن بعض الأحزاب الصغيرة للغاية التي ظهرت في السنوات الخمس الماضية، بعضها من مثقفين ذوي فكر مستنير، ولكنهم بلا قواعد شعبية، وأنا أكرر دائماً أن المثقف عليه دور التنوير والتثقيف وليس الحكم والإدارة. الثانية: إن الشعب المصري سئم من كل هذه الأحزاب التي بلغت من الكبر عتياً كأحزاب وكقيادات ولم تجدد شبابها. الثالثة: إنه من المهم تعديل نظام الأحزاب وإنشاء أحزاب جديدة على أسس سليمة أسوة بما يحدث في الدول الأخرى الديمقراطية، كما في الهند أو حتى بنغلاديش وباكستان أو تركيا.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً