وصلنا مع الحاج ابن خلدون إلى هذه الفترة ونفهم منه أنه مضى على حاله «من الانقباض والتدريس والتأليف» ثم يقفز فجأة إلى تكليفه بمهمة ولاية خانقاه بيبرس من دون أن يوضح ماذا حصل معه ولماذا ترك تدريس الحديث في مدرسة صلغتمش ومتى تركها، حتى أنه يخلط كما ذكرنا ترتيب الفترة وتحديدها. هل جاءت قبل ولاية القضاء للمرة الأولى وعزله أم جاءت بعدها؟ وهل تولى تلك المهمة قبل ذهابه لتأدية الفريضة أم أنه تحمل المسئولية بعد عودته من الحج.
هناك غموض في ترتيب الحوادث وإن تشابهت رواياته. فذاكرته لاتزال خصبة وطرية في عرض الوقائع لكن، وربما بسبب عوامل الزمن، أخذت الحوادث تؤثر على تنظيم سنوات حياته وخصوصاً بعد ذاك الحادث المؤلم الذي ضرب أهله وولده.
ذكرنا سابقاً أن ابن خلدون أدى الفريضة وأخبرنا أنه تولى وظيفة الحديث في مدرسة صلغتمش «بدلاً من مدرسته» أي مدرسة السلطان التي كان يقوم بها «أمير الماخورية» الذي أغراه وحرضه خصوم صاحبنا على عزله منها، وحصل الأمر قبل ذهاب صاحبنا إلى الحج سنة 789 هجرية (1387م). ثم عاد في سنة 790 هجرية وأعاده السلطان «إلى ما عهدت من كرامته». ربما يقصد المدرسة التي طرده منها «أمير الماخورية» ثم استدعاه وسلمه الوظيفة في مدرسة صلغتمش.
إلى هنا لا مشكلة في الترتيب، لكن صاحبنا الحاج يعود مرة ثالثة فيذكر عودته من الحج سنة 790 هجرية (1388م) ومضى على حاله في «التدريس والتأليف» وأخذ السلطان ينظر إليه «بعين الشفقة».
لا يذكر ابن خلدون اسم المدرسة وهل هي نفسها أم مدرسة أخرى. ولا يوضح أيضاً سبب انكسار خاطره. والأمر الواضح هو رحيل أهله وولده في ذاك الحادث المفجع. فهو على رغم تحسن أوضاعه النفسية وتجاوزه المصاب بعد قضاء الفريضة بقي منطوياً على نفسه مكسور الخاطر ومنقبض النفس.
لاحظ السلطان أمر صاحبنا وأخذ يفكر بمساعدته على الخروج من مأساته فأمر بتوليته مسئولية خانقاه بيبرس في منطقة باب النصر في القاهرة، وهي وظيفة مهمة آنذاك. فالخانقاه شيّده السلطان بيبرس (ثامن ملوك الترك) وكانت «أوفرها ريعاً وأكثرها أوقافاً». وعندما توفي ناظرها إمام السلطان الظاهر الشيخ شرف الدين الأشقر اختاره صاحب مصر لتولي الوظيفة، و «أقمت على ذلك إلى أن وقعت فتنة الناصري» ثم عزل منها «بعد سنة وأزيد» (التعريف، ص 590 - 591).
يذكر أن ابن خلدون وعد سابقاً بالحديث عن «فتنة الناصري» التي وقعت سنة 791 هجرية (1389م) لكنه، كما يبدو، أراد أن يوضح مختلف العوامل التي مهدت لتلك الفتنة وتأثيراتها السلبية عليه وعلى وظيفته، فاستطرد في كلامه عن المدارس والمساجد وتعدد المذاهب وأنظمة التعليم ومناهج التربية ليصل إلى ولاية خانقاه بيبرس والعزل منها وهي وظيفة تصادف حصوله عليها مع الفتنة المذكورة.
يعود صاحبنا إلى استطراد تاريخي ثمين في معلوماته ومفيد في توضيح نظريته (العصبية والدولة في إطار العمران البشري وطبائعه) الأمر الذي يعطي فكرة عن تمسكه بأفكاره الأولى التي صاغها في تونس والجزائر وأضاف عليها تلوينات تناسب اختلاف طبيعة الدولة في مصر عن تلك التي راقبها وعاشها في بلاد المغرب.
نعود إلى ابن خلدون الذي قرأ «فتنة الناصري» ووضعها في سياق تتابعها التاريخي وأخبار حوادثها وصولاً إلى بداية صعود نجم (يلْبغا الناصري) وتقدم مسئولياته في مراتب الدولة في وقت كانت تمر في حالات ضعف بسبب إفاضة «بنو قلاوون من الإمعان في الترف والسرف في العوائد والنفقات». وراقب الأمر الأمير برقوق و «نظر في سد خلل الدولة (...) وإصلاحها (...) يعتد ذلك ذريعة للجلوس على التخت، وحيازة اسم السلطان من أولاد قلاوون (...) إلى أن حصل من ذلك على البغية (...) فجلس على التخت (...) سنة أربع وثمانين وتلقب بالظاهر». وهي السنة التي وصل فيها صاحبنا من تونس إلى مرسى الإسكندرية. فابن خلدون دخل القاهرة في لحظة تحول تاريخي حين استولى برقوق على الحكم و «انقلبت الدولة من آل قلاوون إلى برقوق الظاهر وبنيه» (التعريف، ص 597).
استمر الحال على ذلك وأخذ بمنافسته على السلطنة نائب حلب آنذاك (يلبغا الناصري) وشعر «به الظاهر فبعث باستدعائه» وحبسه مدة ثم أعاده إلى نيابة حلب. ثم ارتاب منه مجدداً فأرسل السلطان الظاهر قواته إلى حلب للقبض عليه في سنة 790 هجرية، في وقت كان صاحبنا قد عاد لتوه من تأدية الفريضة.
انتفض نائب حلب (الناصري) على أمر السلطان وقام بتحريض أمراء الشام ضد صاحب مصر. و «خرج الناصري من حلب في عسكره واستنفر العرب والتركمان وأمراء الشام (...) ثم أجمع المسير إلى مصر...» (التعريف، ص 598). ونجح الناصري في دخول مصر وأجلس أمير حاج بن الأشرف على التخت (كرسي العرش) ولقبوه المنصور. وهرب السلطان الظاهر واختفى عن الأنظار إذ «خرج متنكراً وتسرب في غيابات المدينة». وأخذ الأمراء في ملاحقته و «بالغوا في البحث عنه» وأفرجوا عن الأسرى المعارضين للسلطان. وبدأ الإعداد للقبض على السلطان الذي نجح في التسلل واللجوء إلى الكرك وهناك قام بتجميع أنصاره وسار إلى دمشق ونجح في ضرب أصحاب الفتنة. كذلك نجح أنصاره في إشعال انتفاضة ناجحة في القاهرة فتشجع السلطان الظاهر وعاد إلى مصر و «تلقاه الناس فرحين مسرورين بعوده وجبره». وقام بتسوية الأمور مع أمراء مدن الشام فبعث «الجوياني إلى دمشق والناصري إلى حلب كما كانا، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه» (التعريف، ص 600).
ما علاقة الحاج بفتنة الناصري في قت كان يتولى خانقاه بيبرس؟ يروي ابن خلدون أنه أكره في فترة الفوضى التي عمت الدولة على كتابة فتاوى تؤيد انتفاضة (فتنة) الأمراء. ولما عاد الظاهر إلى الحكم تم توضيح الالتباس له، لكن السلطان لم يقبل الأمر وعتب على الفقهاء وصاحبنا فأمر بإخراجه من الخانقاه فولّى «فيها غيري وعزلني عنها (...) ثم عاد إلى ما عرف من رضاه وإحسانه» (التعريف، ص 600).
حصلت الفتنة في سنة 791 هجرية وانتهت في السنة نفسها، وكانت نتيجتها أن ابن خلدون خسر منصبه بسبب فتاوى أجبره قادة انتفاضة الأمراء على كتابتها، فاضطر إلى ترك القاهرة والإقامة في الفيوم «لضم زرعي هناك» (التعريف، ص 609). قضى الحاج عشر سنوات يشتغل في الزراعة ويهتم بالقراءة والتأليف وتقدم في عمره (69 سنة) إلى أن توفي قاضي المالكية آنذاك ناصر الدين بن التنسي فتذكره السلطان وقلده وظيفة القضاء ثانية في سنة 801 هجرية (1398م).
لم يمض شهر على تسلم صاحبنا قضاء المالكية مرة ثانية حتى توفي السلطان وانتقل الحكم إلى ابنه الكبير على أن يكون الحكم «لإخوته من بعده واحداً واحداً» (التعريف، ص 610).
استقر الوضع في مصر لكن أمراء الشام أعلنوا الانتفاضة على السلطان الجديد. وترافقت الانتفاضة مع قيام فتنة ثانية بقيادة الاتابك ايتمش، فتحركت القوى وانتظمت في الشام والاتابك معهم وخرجوا «زاحفين للقاء السلطان» وأجابهم «إلى ما يطلبون من مصالحهم، فاشتطوا في المطالب وصمموا على ما هم فيه». فوقعت في الرملة معركة فانهزموا إلى دمشق ولاحقهم السلطان و «أقام بها أياماً وقتل هؤلاء الأمراء (...) وكبيرهم الاتابك» (التعريف، ص 611). وانتهت فتنة الاتابك، بعد عشر سنوات من فتنة الناصري، بانتصار ابن السلطان وتثبيت موقعه في مصر.
قفل السلطان عائداً إلى القاهرة واستأذنه ابن خلدون الذي رافقه في حملته في زيارة القدس والخليل وبيت لحم، وعاد إلى مصر في سنة 802 هجرية (1399م) ليواجه مشكلة مع منافس جديد على قضاء المالكية.
أخذ الفقيه الطامح بالمنصب (نور الدين بن الخلال) يسعى إلى الوظيفة ويحرض «بطانة السلطان» إلى أن أجابه الطلب فعزل صاحبنا وكلف الشيخ المنافس له بتولي الموقع في سنة 803 هجرية (1400م). ورجع ابن خلدون للاشتغال «بما كنت مشتغلاً به من تدريس العلم وتأليفه» (التعريف، ص 611).
خلال فترة عزلة صاحبنا بعيداً عن منصبه حصل ما لم يكن من حسبان حين جاءت الأخبار من الشام تقول إن ملك المغول (التتار) هجم على البلاد وأخذ يهدد باقتحام دمشق.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3101 - الخميس 03 مارس 2011م الموافق 28 ربيع الاول 1432هـ