هل ينجح نظام القذافي في فكّ الطوق والنجاة من الانتفاضة وإعادة بسط سيطرته على ليبيا؟ حتى الآن يصرّ الديكتاتور على نفي وجود ثورة تطالب برحيله ويتهم أميركا (الغرب) بخيانته وتجميد أمواله وشن حملة إعلامية - نفسية بقصد تحريض الشعب الذي يحبه.
على ماذا يستند القذافي في أقواله؟ قوى الاعتراض تربط قوته بالمال والمرتزقة وميليشيات أولاده وأعوانه وقبيلته المتمركزة في الجنوب (سبها) والمنتشرة في سرت وبعض مناطق طرابلس. فهل هذا صحيح أم أن هناك مجموعة عوامل مضافة يراهن القذافي عليها ويرى أنها قد تساعده وتؤدي إلى تدوير الزوايا وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
لاشك في أن كلام قادة الثورة في الزوايا والأقاليم فيه الكثير من الصواب إلا أن قوة النظام لا يمكن اختصارها بالمال والمرتزقة والميليشيات الأسرية والقبلية الموالية، لأن توافر هذه العناصر لا يوفر كل الشروط المطلوبة لنجاة القذافي من الطوق الدولي والإقليمي والمحيط العربي الجواري. فالنظام كما أشار في أحاديثه المتلفزة والمذاعة عن الأب والابن يؤشر إلى عناصر أخرى لا تأتي على ذكرها قوى الثورة.
أحاديث الديكتاتور وابنه الوريث للسلطة الاستبدادية تذكر مجموعة عوامل خفية وتنفي الكثير من الاتهامات التي تطلقها قوى الانتفاضة. النظام المتهالك ينفي وجود مرتزقة أفارقة بالجملة مؤكداً أن نصف الشعب الليبي من البشرة السوداء وتحديداً سكان الجنوب وهم أبناء مناطق مجاورة للنيجر وتشاد وشمال السودان. والنظام ينفي استخدام القوة المفرطة وقصف المدنيين بالطائرات والطوافات ومدفعية الدبابات. كذلك ينفي النظام انضمام قطاعات من الجيش طوعاً واختياراً إلى الثورة ويصرّ على أن الكثير أجبر بالقوة على إصدار بيانات تنحاز للانتفاضة خوفاً من الاعتقال والقتل.
نفي النفي يعني الإثبات. فالديكتاتور يكابر حتى اللحظة الأخيرة وهو يكاد لا يصدق أن الأمور خرجت عليه ولم يعد يمسك زمام المبادرة وبات قاب قوسين من الانهيار. فالكلام عن أن الشعب الليبي نصفه من الأفارقة يؤكد تهمة شراء المرتزقة والاستنجاد بالشركات الأمنية المحترفة للدفاع عن مواقعه. نفي وجود مرتزقة أفارقة بذريعة أن نصف الشعب الليبي من أصول إفريقية يشكل اعترافاً ضمنياً أن الميليشيات التي تحارب نيابة عن أسرته هي القوة العسكرية الموازية للطرف المضاد.
كذلك نفي الديكتاتور لاستخدام القوة والإفراط في قتل المدنيين يسقط آلياً من خلال مراجعة خطاباته التي وصفت عناصر الثورة بالفئران والجرذان والحشاشين ودعت الجماهير إلى شدها من أذنابها وأذيالها وسحقها وقتلها وسحلها. فالكلام الانتحاري المهووس يؤكد بالدليل القاطع تهمة استخدام القوة المجنونة لحماية بقايا النظام من التلف والانهيار.
نفي الديكتاتور لحكاية انضمام قطاعات عسكرية للثورة مسألة لم تعد تحتاج إلى برهان بعد أن صدرت بيانات واضحة جاءت من تشكيلات عسكرية وأمنية تتحرك خارج مناطق سيطرة الانتفاضة. فهذه الانشقاقات التي ظهرت في مناطق الغرب (الجبال الغربية) والشرق (الجبل الأخضر) ومن داخل مدن تقع بالقرب من العاصمة كلها إثباتات نصية مصورة تؤكد أن آليات التفكك أخذت تخترق مواقع قوة السلطة وتلك المفاصل التي كان يستخدمها الديكتاتور لتجميل استبداده. الكلام عن أن هذه القطاعات أكرهت على الخضوع والإذعان لا مبرر له في وقت تنقل الفضائيات مشاهد مباشرة من مناطق الاشتباك أو القواعد والمطارات والثكنات تؤكد مشاركة القوات المسلحة في الدفاع عن المدن المحررة وصدّ الهجمات المضادة للمرتزقة.
نفي الديكتاتور هو مجموعة أكاذيب تصدر عن خطاب أصيب بالهلوسة ولا يصدق أن الناس ضجرت منه وتريد التخلص من استبداده. فالنفي إثبات لحقائق أخذت تظهر ميدانياً من الشرق المحرر إلى الغرب الذي يبدو أنه بات في طريقه إلى الحرية.
النفي والإثبات يشكلان ظاهر الصورة. لكن ماذا عن الجوانب الخفية التي يراهن عليها الديكتاتور ويرى أنها ستصب في مصلحته بعد أن تستقر الأمور في مناطق قوته. هذه النقاط أشار إليها ابنه وهي في مجموعها تركز على مفاصل ثلاثة: الأول، المراهنة على احتمال الانقسام القبلي - الجهوي ونهوض قوى منحازة إليه ترغب في الكسب والتحصيل وتوزيع المناصب الشاغرة والأموال الفائضة. الثاني، المراهنة على احتمال نمو الفوضى في الجانب الآخر وعدم قدرة القبائل المناوئة له أو المحايدة على التفاهم في ترتيب مجلس انتقالي يرضي كل الفئات والمناطق والقطاعات العسكرية. الثالث، المراهنة على النقص في المواد الطبية والغذائية وتراجع الخدمات ونفاد المخازن والمستودعات والمحلات من البضائع وفراغ خزائن المصارف من الأموال وعدم القدرة على تسديد الأجور والرواتب.
الديكتاتور يراهن على تفكك الثورة من الداخل ولا يعترف في الآن بوجودها. هذا التعارض في الخطاب المصاب بالهلوسة والأنا وجنون العظمة لا يلغي خطورة المراهنة التي يؤسس القذافي عليها احتمال عودته إلى المجد والتربع لفترة جيل في منصبه. فالديكتاتور يراهن على الوقت ويرى أن تمديد المواجهة زمنياً يخدمه في تعزيز بقايا سلطته من خلال التهويل والإغراء لكونه يتحكم بمصادر القوة (الاحتياط النقدي) وخطوط الإمداد والمواصلات (المطارات وشركات الطيران والنقل التجاري) والميليشيات المجهزة بالآليات التي تتحرك بسرعة لتطويق المدن والبلدات والقرى وإغلاق المرافق والمنافذ.
تطويل فترة الاقتتال يشكل في جوانبه المتعددة نقطة قوة يظن المستبد أنها قد تساعده على شلّ الثورة ومحاصرتها وتركيعها، لأنه يمتلك الوسائل التي تتكفل في عزل البؤر عن بعضها وقطع الإمدادات عنها وإجبار الناس على الخنوع والقبول به والاستسلام لشروطه. وهذا النوع من القناعة الذاتية لا يمكن له أن يتشكل لو لم يكن يمتلك أدوات التنفيذ العسكرية (الميليشيات الموالية، والمرتزقة، والشركات الأمنية) والقوة البشرية (بعض القبائل المستفيدة أو المتصاهرة مع عشيرته).
هناك مخاطر إذاً وهي ليست قليلة حتى لو بالغ الديكتاتور في تضخيمها. فهذه العناصر لابد أن تؤخذ في الاعتبار لتجنيب الثورة سلبيات الهجوم المعاكس الذي يعتمد على جيوش المرتزقة والاحتياط في المال والمعدات والمخازن والمستودعات وفروع المصارف ومهابط الطيران والنقل البحري والجوي.
تطويق المدن والبلدات والقوى والمناطق والجبال والاكتفاء بعزلها والتردد في اقتحامها تشكل في مجموعها مفاصل القوة المتبقية للديكتاتور الذي يراهن على الوقت بوصفه من الاحتمالات التي يمكن لها أن تجلب له حلم العودة إلى التحكم بالسلطة معتمداً على فشل الثورة من إنتاج البديل ما يعطي فرصة للتفاوض مع أميركا (الغرب) وإقناعها بالتراجع عن خيانتها.
إنه حلم ديكتاتور لكنه ليس بعيداً عن التحقق في حال امتدت فترة المواجهة ولم تحسم مسألة العاصمة طرابلس، وفشلت قوى الاعتراض في تشكيل قوة ميدانية بديلة مدنياً ومنظمة عسكرياً تستطيع وضع الخطط لتلبية حاجات المدن والبلدات والقرى المطوقة وترتيب استراتيجية هجوم مدروسة ومدعومة دولياً (غطاء جوي) ومعززة إقليمياً (تأمين إمدادات) حتى تكون قادرة على تقويض ما تبقى من سلطة القذافي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3099 - الثلثاء 01 مارس 2011م الموافق 26 ربيع الاول 1432هـ