في الأزمات يستلزم أن نكون صُرَحَاء بأقصى درجات المُكَاشفة. وبما أن جميع البحرينيين اليوم (راعياً ورعيَّة) يَرَوْنَ أننا فعلاً في أزمة مفتوحة، مع احتراب طائفي سلوكي مكتوم فإن الحديث الشَّفاف هو الأوجب. بالتأكيد فإن قناعتي السَّاعة هي أن ذلك «الأوجب» يجرُّني إلى استخدام تسميات طلَّقتُها بالثلاث منذ زمن، وصرت أمقتها مَقْتَ طِيب الكلام للخَلْف، والمال الطاهر للبَهْرَج. لكن الحال يفرض عليّ الآن أن أقفِزَ على ذلك المَقْت لإيصال رسالة ما.
ما سأقوله اليوم ليس تنجيماً ولا قراءةً لفنجان. إنه وبشكل مُحدَّد ما يدور على ألسِنَة الناس هنا أو هناك، لدى هذا الفريق أو ذاك. بعض من أحاديثهم يُصرَّحُ بها علناً ولكن تحت القِبَاب عندما تكون المجالس وحضورها البشري نقيّة خالصة من حيث انتماءاتها المذهبية، وبعضها يُقال هَمْسَاً عندما لا يكون ذلك. بل إن آخرين يُفضِّلون كُتمانها في الصُّدور دون أن يَبرأ أصحابها من أدران وشوائب تعلَق دائماً بالنفوس عندما تصاب المجتمعات المقسومة مذهبياً بداء الفرز والبُعَاد.
تُرَى ماذا يُحِسُّ السُّنَّة اليوم في البحرين؟
باختصار، إنهم يَرَوْن أن أحداً يُريد أن يُسقِطَ نظاماً سياسياً حاكِماً هم ينتمون إليه في العنوان والمُعنوَن، فاستلزم النفير منهم إلى حمايته وصَوْنِه من خصمه.
ثم ماذا يُحِسُّ الشيعة اليوم في البحرين؟
باختصار، إنهم يَرَوْن أن أحداً قد وَضَعَهُم في مرتَبَة عيشٍ من الدرجة الثانية لا ترقَى إلى المواطنة الطبيعية، فاستلزم الأمر منهم هَبَّة شعبية لتصحيحه وكأنهم في ذَوْدٍ عن النفس والكيان والمصير.
السُّنة يسمعون تصريحات للمعارضة المُضادة للإعلام الرسمي، ويسمعون شعارات الشباب في المظاهرات الدَّاعية (في بعض منها) إلى إسقاط النظام فيحْنقون، مُعتَبِرِين أن ذلك ما هو إلاّ افتئات لا يجوز على نظام الحكم. الشيعة رأوا في مسيرة يوم الجمعة الاحتفالية عند مركز أحمد الفاتح (بعد يوم الخميس الدَّامي مباشرة) استفزازاً لهم وعدم مراعاة لمشاعرهم وهم يُوَارُون الثَّرَى أبناءهم وآباءهم وشبابهم من الذين سقطوا ظُلماً في دوَّار اللؤلؤة.
السُّنة لا يُشاهدون إلاّ شاشة تلفزيون البحرين، ويُصدِّقون ما يُقال فيه، غَثَّاً كان أم سميناً، ويَبنُون عليه مواقفهم، ويصوغون به مشاعرهم، وينظرُون إلى بقيَّة القنوات الفضائية الأخرى على أنها مُغرِضَة ومُجيِّشَة. الشيعة لا يُشاهدون إلاّ القنوات الفضائية بغثها وسمينها، يُؤسِّسُون عليها مُحاكاتهم للأحداث التي تجري بين أرجلهم، ويُتابعون ساحتهم من خلالها، وفي نفس الوقت ينظرون إلى تلفزيون البحرين على أنه (فقط) شاشة للتلميع وتشويههم.
السُّنة يَرَوْن أن الشيعة نائِلين لحقوقهم الدينية في إقامة الطقوس الدينية وفي بناء مساجدهم ومآتمهم وهم الأكثر في وزارتين خدميتين على الأقل، وأن الحُكم كان (وطيلة السنوات العشر الماضية التي أعقبت إقرار دستور 2002 وميثاق العمل الوطني) ضابط النفس أمام قطعهم الشوارع بالإطارات وتألِيْب المنظَّمات الدولية والحقوقية عليه. الشيعة يشعرون أنهم مغبونون سياسياً بالتجنيس والتمييز الوظيفي والخدماتي والمُغالبَة في الحقوق والتمثيل الشعبي وهم يُشاهدون أن الدائرة الأولى في المحافظة الشمالية (أكبر الدوائر) التي بها 16 ألف و216 ناخباً تأتي بنائب برلماني واحد والدائرة السادسة في المحافظة الجنوبية (أصغر الدوائر) التي تضم 768 فرداً فقط تأتي بنائب أيضاً.
هذا هو التقابل الحاصِل اليوم في البحرين. ومَنْ يُدَقِّق فيه جيداً سيجده تقابلاً مدخله سياسي وليس طائفي. بمعنى أن الحديث عن شكل الإصلاحات السياسية وسقفها ومداها والمطالبات بشأنها هي بالأساس معادلة تقوم على صيغة سياسية تقودها وتحكمها مسائل الولاء السياسي وليس الطائفي بالنسبة لنظام الحكم. وبالتالي فإن أيّ توتير طائفي مدفوع الأجر هو يُحقِّق مصالح أفراد وجهات تسعى لإشغال المجتمع بذاته لا أكثر ولا أقل.
لكن ما يظهر اليوم هو انزلاق البحرينيين (للأسف) نحو استدعاء الأمر المذهبي في ذلك الخلاف. لذا فإننا نجد أن هذا التقابل قد ولَّدَ لُحمة وائتلافاً في الطائفتين لا نظير لها في تاريخ البحرين.
عندما شاهدتُ مسيرتي الفاتح (وبعيداً عن تصويرات الإعلام البحريني الرَّسمي وتِعداداته) دُهِشْتُ من الحضور الذي كان عارماً وكبيراً. وعندما شاهدت مسيرتَي الوفاء للشهداء (الثلثاء) وعُلماء الدين (الجمعة) من تقاطع السِّيف إلى دوَّار اللؤلؤة (وبعيداً عن تقديرات المعارضة البحرينية وأرقامها) صُعِقتُ من الحضور الذي كان عارماً وكبيراً أيضاً.
ليس مهماً اليوم المناجزة بالأرقام؛ لأنها لا تعني لي الكثير إلاّ في حدودها الوطنية الصّرفة ولكن المهم والخطير هو كثافة التمثيل الفردي الطائفي في المشهدَين (الفاتح/ اللؤلؤة). فلم يتوحَّد الشيعة مع بعضهم ولا السُّنة مع بعضهم من قبل مثلما هُم متوحِّدون اليوم، ولكن ليس على اتفاق وإنما توحّد على الخلاف بين بعضهما البعض. هذا هو المُقلِق اليوم في البلد. والجميع يتحمَّل مسئولية تصحيح ذلك الخطأ والوِزْر الذي سيأخذ البلد (بالتأكيد) إلى متاهات لا يعلمها أحد. وربما سيُبكِي ذلك أجيالنا الذين سيَرِثُون عنا واقعاً موبوءاً ومُخزياً.
في هذه المرحلة الخطرة والحساسة جداً فإن أقصَى ما يدَّخِره المرء تجاه هذه الأزمة هو أن يقوم الجميع بالرجوع إلى الوسائل المباشرة في التواصل. عليهم أن يَحِجُّوا إلى بعضهم البعض. على مجالس المُحرَّق أن تُفتَح وتغصّ بزوَّار من المحافظة الشمالية. وعلى مجالس سترة أن تستقبل إخوتهم وجيرانهم من الرَّفاعَيْن. وعلى الجمعيات السياسية أن تُعيد النظر في عضوياتها لتكون مُختلطة. ربما يرى البعض أن هذه أمنيات لكن التاريخ يُعلّمنا غير ذلك.
مَنْ كان يُصدِّق أن الكاهن المسيحي الروتردامي إراسم قد دافع عن اللوثريّة والهراطقة في أوروبا. ومَن كان يُصدّق أنه كان مُعارضاً صلباً للحروب الصليبية ضد الأتراك واعتبرها شراً رغم مسيحيته. ومَنْ كان يُصدّق أن الملك هنري الرابع ملِك فرنسا يستقبل ممثلين عن الكنائس الكاليفينية في عقر الكاثوليكية. هذا فيما خصّ أوروبا، في منطقتنا، مَنْ كان يُصدِّق أن تصِل الزِّيجات المختلطة في العراق (قبل الاحتلال) إلى 20 في المئة. ومَنْ كان يتخيّل أن تقوم عشائر ديالى السُّنية بحماية الرَّاجِلين من الشيعة القاصدين كربلاء من الهجمات الإرهابية. هذه أمثلة حيّة وقريبة جغرافياً إلينا. وما على الجميع إلاّ أن يقرأوها ويستوعبوها جيداً. وقبل كلّ ذلك أن يحفظوا كلِمَتَي النَّجاة لهم: اتقوا الله
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3097 - الأحد 27 فبراير 2011م الموافق 24 ربيع الاول 1432هـ
إلى المتداخل السادس
الفاتح شهد مسيرتان الأولى يوم الجمعة التي أعقبت مجزرة الدوار والثانية في يوم الإثنين والمفصود هي الأولى
تنويه
حدث يوم الاثنيين في الفاتح وليس يوم الجمعه... الحدث الذي احزن الكثير من الطائفه الشيعيه كان يوم الجمعه اي بعد مجزرة الدوار بيوم كان الناس تودع احبائها والاعلام البحريني يرقصون ويغنون في شارع الفاتح وكانه عرس او انتصار.. لقد احدثه هذه شرخأ في قلوب الناس وسوف تتذكره الاجيال القادمه
تنويه
تجمع الفاتح حدث يوم الاثنين وليس الجمعة بهدف اظهار صوت للطرف الآخر الذي تناسيتموه كأن لا وجود له
ياهذا اتق الله
وما يلفظ من قولا إلا لديه رقيب عتيد
اخي الكريم من احي ومن غذا الطائفية منذ القدم
غير الحكومة بأدواتها وبالكتاب امثالكم
الوطنية والحقوق لاتتجزأ
الزبدة
اقتباس:
((هذا هو التقابل الحاصِل اليوم في البحرين. ومَنْ يُدَقِّق فيه جيداً سيجده تقابلاً مدخله سياسي وليس طائفي))
هو كذلك تماماً
شكراً أخ محمد
سلمت يداك
مقال موزون وتحليل منطقي بمستوى الوعي
ننصح الجميع بقراءته
كريم
يا جماعة هدوا الوضع
لماذا التهيج مقال غير منصف وغير واقعي يا جماعة الخير هدوا الوضع ترى القاعدة عم تشحذ اتباعها يا ناس هدوا الوضع البحرين ما تستاهل هي الافاعيل
تحليل موضوعي و راقي قل نظيره
بعيدا عن العواطف ... و إن كنت من ألذ خصومك فيما يتعلق بالشأن الإيراني الذي كنت تكتب عنه قبل مدة ... فإنني أراك قد أصبت كبد الحقيقة بهذا التحليل الموضوعي و البعيد عن الإنفعال و العواطف.