العدد 2214 - السبت 27 سبتمبر 2008م الموافق 27 رمضان 1429هـ

مرايا لبنانية في المشهد الإقليمي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لبنان (دولة ومقاومة) ينتظر بدء الجلسة الثانية من الحوار الوطني في قصر بعبدا الجمهوري التي حدد موعدها في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ومن الآن إلى تلك اللحظة يفترض أن تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية انتهت في تحديد مواصفات ولون وبرنامج سيد البيت الأبيض للسنوات الأربع المقبلة. كذلك يرجح أن تكون زعيمة «كاديما» تسيبي ليفني المكلفة بتشكيل الحكومة الإسرائيلية قد أنهت مهمتها بالنجاح أو أنها فشلت ووجهت دعوة إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة.

لبنان يعيش لحظات انتظارية دقيقة تحتمل الكثير من الانكسارات والانفراجات. والسبب أن هذا البلد الصغير تحوّل في الفترة الأخيرة إلى ساحة مفتوحة داخلياً على تجاذبات أهلية ومكشوفة دولياً وإقليمياً على مختلف التطورات. فالجغرافيا السياسية التي تأسس عليها الكيان فرضت عليه مجموعة شروط موضوعية لا يستطيع تجاهلها وهو مطالب التعامل معها بواقعية تجنباً للتورط في منزلقات أهلية تعطل على الدولة إمكانات النهوض والتقدم.

فلسفة لبنان الصغير تشترط على دولته وقياداته السياسية الحزبية (الطائفية والمذهبية والمناطقية) قراءة التحولات في محيطه الجغرافي ومتابعة متغيراته وتوازناته. وهذا ما أدى إلى تحويل ساحته إلى مرايا سياسية يمكن رؤية الكثير من المشاهد الإقليمية من خلال تلك الانعكاسات الدولية والجوارية التي تظهر على سطحه المحكوم بطبيعة سكانية متشعبة في تضاريسها الأهلية.

اللحظات الانتظارية التي يعيشها لبنان مارست ضغوطها النفسية (السيكولوجية) على مراكز قواه وأخذت تدفع الأحزاب والفصائل والهيئات نحو البحث عن صيغ تهدئة تستهدف تسوية الأمور بأقل الخسائر بعد أن دخل البلد الصغير في حروب شوارع واقتحامات وخطوط تماس أهلية منذ 7 مايو/ أيار الماضي. وشكلت تلك المواجهات الدموية تحدياً لمختلف التيارات ما جعلها تتنبه إلى خطورة الاستمرار في سياسة الانزلاق نحو هاوية لا يعرف قعرها. وبسبب انكشاف الساحة على أبواب مفتوحة اكتشفت القوى أهمية العودة إلى «السلم الأهلي» وضبط «الحرب الباردة» تحت سقف المصالحة حتى لا تتطور التجاذبات الشارعية إلى «حرب ساخنة».

ساهم اكتشاف اللحظات الأخيرة في بلورة توجهات استندت إلى «تفاهمات الدوحة» وأخذ بإعادة ترتيب شئون البيت الداخلي لمنع النيران من التهامه. ومنذ تلك الفترة توجهت القيادات التقليدية نحو البحث عن خطاب بديل يخفف من حدة التشنج والتخوين وتبادل الاتهامات ويراهن على الوقت لإعادة تشكيل السلطة السياسية من دون ضرورة للدخول في معارك عشوائية يمكن الاستغناء عنها مادام موعد الانتخابات النيابية قد اقترب. وبما أن استحقاق الاختيار الشعبي سيكون في مايو 2009 اتجهت القوى المتخاصمة والمتنافسة إلى «تأجيل الانفجار» وترك الحرية للناس لتحديد اختياراتها.

قرار تجميد المواجهات أملت شروطه مجموعة عناصر واقعية تأسست على تلك التداعيات الأهلية التي تشكلت ميدانياً في بيروت والجبل والبقاع والشمال وطرابلس والكثير من المناطق. فالوقائع أظهرت استحالة الحسم العسكري في بلد جبلي صغير تتكاثر فيه الطوائف وتتخذ من مرتفعاته مجموعة حصون طبيعية يصعب اختراقها من دون كلفة بشرية لا تقوى الأطراف السياسية تحمل مسئولية تداعياتها وكوارثها المدنية والمعيشية.

أجزاء الصورة

التجميد (التأجيل) كان الحل الموضوعي لمشكلات معقدة ومتداخلة ومترامية الأطراف في امتداداتها الجغرافية والمذهبية والطائفية. والحل الموضوعي في جانب منه يفتح الباب أحياناً على عقلانية سياسية تتعامل بتواضع مع الوقائع الجارية. وهذا ما أدى إلى تعديل الخطاب وتهذيبه وتشذيب انفعالاته حتى يتأقلم مع ضرورات المرحلة الانتظارية القلقة.

لبنان (الدولة والمقاومة) دخل منذ التوقيع على «تفاهمات الدوحة» سلسلة محطات مسالمة بقصد دفع العلاقات الأهلية إلى الهدوء والترقب. ومنذ تلك الفترة حصلت تطورات إيجابية على مستويات مختلفة تتوجت بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وطنية ودخول الطوائف في حوارات سلمية أنتجت توافقات وتعهدات ولقاءات تشير في مجموعها إلى نمو رغبة في ضبط الاختلافات تحت سقف «الحرب الباردة» وضمن شروط «السلم الأهلي». وشجع التموضع الداخلي الدولة على التحرك واتخاذ مبادرات محلية وإقليمية تمثلت في الانفتاح على الجوار وعدم استفزازه بالتصريحات التي كانت تثير الحساسيات وترفع من درجات سخونة المنطقة.

حتى الآن تبدو الأمور مضبوطة إرادياً ولكنها تنتظر تلك المتغيرات الإقليمية والتحولات الدولية حتى تتوضح معالم تلك الصورة من خلال مشاهدة المرايا اللبنانية. فهذا البلد لا يستطيع أن يستقر أهلياً إذا لم تتوافر تلك الشروط الجغرافية الجوارية والسياسية. لذلك تبدو القوى الفاعلة في حال انتظار للتعرف على الكيفية التي ستسير عليها قطارات الحلول (التسويات). فالسكة الدولية - الإقليمية تتحكم بطبيعة المشهد اللبناني وانعكاساته على المرايا. وكل جزء من المرآة يكشف عن جانب من الصورة. هناك جزء يتصل بالانتخابات الأميركية، وجزء يتصل بتشكيل الحكومة الإسرائيلية، وجزء موصول باحتلال العراق ومستقبله، وجزء يرتبط بالملف النووي الإيراني والاتصالات الدولية بشأنه، وجزء آخر له علاقة بتطور الملف الفلسطيني وتداعياته المحتملة في حال استمر التقاتل الداخلي المعطوف على تجاهل تل أبيب وتهربها من الوعود والاستحقاقات الدولية. مجموع تلك الأجزاء تتشكل منها تلك المرايا اللبنانية التي تعكس ذاك القلق من متغيرات غير متوقعة قد تحصل على الساحة وفي الجوار قبل اقتراب موعد الجلسة الثانية في 5 نوفمبر المقبل.

هناك مخاوف لبنانية من تشكل صورة غير مرئية في الأفق القريب. وأخطر تلك الاحتمالات إقدام تل أبيب على تنفيذ تهديداتها بتحطيم الدولة وبنيتها التحتية في الفترة الضائعة بين تشكيل الحكومة الإسرائيلية والانتخابات الأميركية. يضاف إلى هذا الجانب ظهور أفعال من العنف المجهول الهوية في سورية تمثلت في اغتيالات وتفجيرات عشوائية غامضة في لحظة انتقالية تمرّ بها المنطقة. فهذه التهديدات والتفجيرات يمكن أن تنعكس سلباً في المرايا اللبنانية القابلة للتحطم بسهولة، وخصوصاً أنها تأتي في ظروف غامضة وفترة ضائعة ولحظة انتقالية محكومة بآليات قهرية قد تنتج انفعالات أهلية تتجاوز حدود تلك العقلانية السياسية التي خرجت فجأة من المستودعات وتمظهرت في مصالحات مؤقتة داخل الطوائف وبين المذاهب والمناطق.

لبنان ينتظر الآن اقتراب موعد جلسة الحوار الثانية في قصر بعبدا الجمهوري. إلا أن الوقت سيداهمه في حال تداعت تلك المتغيرات الدولية وألقت بثقلها الإقليمي على ساحة مفتوحة داخلياً على التجاذبات الأهلية وجاهزة نفسياً لتقبل مختلف التطورات. فالتهديد الإسرائيلي المعطوف على العنف المجهول الهوية في سورية يعطل، في حال تقاطع وتداعى إقليمياً، إمكانات التقدم اللبناني باتجاه المصالحة المطلوبة لتمهيد الطريق بانتظار حلول موعد الانتخابات في الربيع المقبل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2214 - السبت 27 سبتمبر 2008م الموافق 27 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً