ليس هناك شك في أن مشروعات الإصلاح التي تناقشها قمة الثماني تشكل تدخلاً مباشراً في شئون الدول العربية، وأن مثل هذا التدخل لم يحصل منذ زمن طويل، أعني منذ القرن الماضي، في أية منطقة أخرى من العالم. وكان من المفترض أن تكون الشعوب هي الأكثر حساسية تجاه هذا التدخل. كما كان من المنطقي أيضاً أن تستغل المعارضات هذه المبادرات وأن تستخدمها لإدانة الحكومات القائمة ونزع الشرعية عنها. وبالمقابل كان من المتوقع أن تسعى الحكومات القائمة إلى الاستفادة منها في سبيل التغلب على الصعوبات الكبيرة التي تواجهها في سياساتها العامة الوطنية والاقتصادية معاً.
ولعل وراء هذه المفارقة سوء فهم مشترك من قبل الأنظمة والرأي العام معاً لأهداف هذه المبادرات الإصلاحية وطبيعتها. فمما لا شك فيه أن تأييد قسم كبير من الرأي العام العربي لها ينجم عن الاعتقاد بأن ساعة الخلاص والتغيير قد دقت وأن الهدف النهائي للتدخل الأوروبي الأميركي هو وضع حد للسلطة المطلقة ولتسلط جماعات المصالح الخاصة على شئون البلاد من دون رقيب ولا حسيب لعقود طويلة حتى أصبحت البلاد وما فيها ملكاً خالصاً لها. في المقابل ربما شكت النخب الحاكمة من أن مشروعات الإصلاح المطروحة قد تهدف إلى تغيير النظم القائمة على رغم من اعتقادها الصحيح بأن أصحاب هذه المشروعات في واشنطن وبروكسل ليست لديهم بدائل حقيقية لها. وربما خافت أن يفتح القبول بمبدأ الإصلاح نفسه، مهما كانت درجة تطبيقه، الباب أمام مطالبات وتغييرات جدية في أسلوب ممارسة الحكم والتصرف بالموارد في البلاد وبالتالي أن تفرض على نظمهم معايير وقيم قانونية وتعددية لا يمكن إلا أن تقود على المدى الطويل، مهما كانت محدودة، إلى تغيير شروط سيطرة النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية بحيث يصبح من الصعب عليها الاستمرار في التصرف بموارد الدول وسكانها كما هو عليه الحال اليوم، أي بالضبط من دون رقيب ولا حسيب داخلياً كان أم خارجياً.
والواقع أن أي خطة للإصلاح الاقتصادي أو الإداري أو العلمي والتقني لا يمكن أن تقوم من دون تعاون واسع مع الدول الصناعية. وكان من الممكن ببساطة أن تستغل النظم العربية المبادرات الجديدة من أجل توريط الدول الكبرى في حوار جدي للخروج من محنة العجز والهامشية والركود الاقتصادي التي تعيشها الدول العربية وأن تكون لديها اليد الطولى في فرض أجندة وجدول أعمال الإصلاح في هذا التعاون بوصفها تمثل السلطات القائمة بالفعل على الأرض ولا يمكن لأي إصلاح أن يحصل من دون إرادتها أو من وراء ظهرها. فما دامت الدول الصناعية لا تطالب بتغييرات سياسية مسبقة على تحقيق الإصلاح ولا تدعو حتى إلى إيجاد حكومات تمثيلية ولكن فقط إلى توسيع دائرة المشاركة السياسية ومحاربة الفساد، ليس هناك أي خطر يهدد سيطرة النخب الحاكمة لصالح الدول الكبرى.
ولو نظرنا في العمق لما وجدنا هناك أي تناقض فعلي بين المشروعات الأميركية الأوروبية كما ظهرت في نسختها الأخيرة وتلك التي تدّعي العروبة في مسألة الإصلاح. فهل يختلف تحرير الاقتصاد الذي أخذت به الحكومات العربية جميعاً وما يتبعه من مفاوضات للدخول في مناطق التجارة الحرة والانتساب لمنظمة التجارة العالمية عن التحرير الذي تطالب به الولايات المتحدة الأميركية؟ وهل لدى الحكومات العربية برامج لإصلاح التعليم والإدارة والقوانين التي تختص بتشجيع الاستثمار وخلق البيئة القانونية لها؟ وهل تحسين شروط مساهمة المرأة في الحياة العمومية تختلف عن تلك التي تقترحها الدول الأجنبية؟ وهل تقترح الدول الأجنبية بالفعل برامج إصلاحية مفصلة ودقيقة بحيث تحرم الحكومات العربية من أي هامش لوضع برامج تضمن من خلالها مصالح الدول والمجتمعات التي تحكمها؟
لا تريد الدول الأطلسية الأوروبية أن تغير النظم العربية كما يعتقد قطاع كبير من الرأي العام العربي. وليس لديها أي سبب كي تحرص على مصالح الشعوب العربية. كما أنها ليست خائفة على مصالحها من أية حركة استقلالية رسمية تجعل الدول العربية بعيدة عنها، فلم تكن هذه الدول أكثر حاجة إلى الدعم الخارجي مما هي عليه اليوم. إن ما تريده هو حماية النظم العربية نفسها من عواقب تدهور الأوضاع وانهيارها ومضاعفات ذلك على المجتمعات الصناعية. وهي تعتقد أن من مصلحة هذه النظم القائمة، كما هو من مصلحة الدول الصناعية أن يتم إصلاح الأوضاع القائمة حتى يمكن وضع حد للتفسخ والفساد المستشري والمستمر الناجم عن الاستهانة بالمصالح العمومية وتداخل السلطات السياسية بالسلطات الاقتصادية، وتغول أصحاب الولاء والنسب والحظوة على موارد الدولة والمصالح العمومية. فلا تطالب واشنطن أحداً بوضع المفاتيح على الباب والخروج لترك الحكم لفئات أخرى أكثر جدارة وإخلاصاًَ للمصالح الوطنية. إنها تطلب من حكومات كانت هي نفسها قد أطلقت يدها في شعوبها وغضت النظر عن تجاوزاتها لعقود ستة متتالية على حد قول الرئيس الأميركي، بأن تعيد النظر بسياساتها وتعدل من أسلوبها في الحكم الذي قام ولايزال على الاستبعاد الكامل للشعب من الحياة السياسية ووضعه تحت الوصاية الكاملة وقيادته بالأوامر العسكرية إلى درجة تكاد تزول فيها، في العديد من المجتمعات العربية، مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والقانون، التي لا يمكن للمجتمعات أن تقوم وتستمر من دونها. أقول أن تعيد النظر في هذه السياسات حتى يمكن تجاوز الأزمة التاريخية العميقة والتغلب على مخاطر التطرف والإرهاب والعنف الذي تختزنه الشعوب العربية بعد نصف قرن من الذل والإهانات الداخلية والخارجية والقهر اليومي بالجملة وبالتفصيل.
ليس هناك إذن ما يمكن أن يشكل في المبادرات الأميركية - الأوروبية تهديداً عميقاً لبقاء النظم العربية.
بل إن هذه النظم لم تكفّ منذ عقود عن طلب مساعدة الدول الأجنبية في منع التدهور الشامل في الأوضاع كما تطالبها بالتدخل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية ولا تخفي تعاونها الشامل معها ضد التطرف وحركات المعارضة الداخلية، بل إنها تستعديها على المعارضات العربية الديمقراطية التي تقول عنها إنها أكثر عداءً للولايات المتحدة من النظم الحاكمة ذاتها. وحتى في ميدان الإصلاحات السياسية لا يتجاوز ما تطالب به الولايات المتحدة بعض التعديلات السياسية البسيطة التي لا ترقى من قريب ولا من بعيد إلى مستوى إقامة نظم ديمقراطية بالفعل، ولو كان الأمر كذلك لما تحدثت الولايات المتحدة وأوروبا عن إصلاح، وليس الإصلاح من صلاحيتها بالفعل ولا هو مطلوب منها، بل كان عليها فقط أن تسحب اعترافها الرسمي بالحكومات العربية وأن تطالبها بإجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة لإفساح المجال أمام نشوء سلطة منبثقة عن الإرادة الشعبية ومعبرة عنها تقوم هي نفسها بالإصلاحات المطلوبة. لكن لا واشنطن ولا أوروبا فعلت ذلك. لقد تصرفتا من منطلق الشراكة والتحالف مع الأنظمة القائمة. وهما لا تخفيان أنهما تتصرفان بدافع المسئولية تجاه هذه الأنظمة التي حمت مصالحها خلال عقود طويلة وفي سبيل إعادة بنائها وتأمينها.
إن ما تريده واشنطن وبروكسل هو في النهاية إصلاحات سياسية بسيطة لا تعدو كونها تجميلية إلى جانب الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية التي لا تمانع أي حكومة عربية فيها بل لقد بدأت في تحقيقها بالفعل. وهي تؤمن بأن هذه الإصلاحات السياسية البسيطة التي تقوم على حد تعبير المبادرة الأميركية على توسيع القاعدة الشعبية للنظم المغلقة، وإشراك بعض الطبقة الوسطى في الحياة السياسية، لا تهدد النظم ولكنها تعززها وتدعمها في وجه الموجة العاتية للغضب الشعبي الذي عبر عن نفسه في الاندفاعة التي مثلتها منذ عقدين الحركات الإسلامية المتطرفة والذي يعبر عن نفسه اليوم بالانتفاضات الشعبية المتفرقة وربما في المستقبل بانفجار عام. ما الذي يجعل الأمور تبدو صعبة إلى هذه الدرجة على النظم العربية؟
إقرأ أيضا لـ "برهان غليون"العدد 3094 - الخميس 24 فبراير 2011م الموافق 21 ربيع الاول 1432هـ