منذ مولده لم يغادر المدينة المقدسة، ولد فيها وتخرج من مدارسها، ورفض أن يلتحق بجامعة خارج أرض الوطن فظل صامدا بها. اشتغل بالتجارة وبعد سنوات طويلة أصبح يملك أحد المحلات في شارع الواد الممتد من باب العمود حتى باب السلسلة. كان سعيدا في حياته رغم كل الممارسات الإسرائيلية بتضييق الخناق على سكان القدس، فقد قرر ألا يمنحهم نشوة الانتصار عليه.
- لن أتركها لمحتليها، سأموت وأدفن في مقابرها.
هذه كلماته الشهيرة، فالقدس بالنسبة إليه لم تكن مكان ولادة. بل كانت انتماء حقيقيا للمكان، والتراث، والتاريخ. كان كثير التجوال في شوارعها، وجبالها حتى أصبح يعرف كل زقاق وحي فيها. إن تسأله عن أحد محلاتها يحدد لك بالضبط مكانه في الشارع، وصاحبه الحالي، والسابق. أصبح معلما من معالم القدس، ومرجعا تاريخيا، وروحيا. القدس موطنه الدنيوي، وجنته التي ينتظرها يوم القيامة. ما سر هذا العشق لهذه المدينة المقدسة؟
هل سورها العظيم الذي بناه السلطان سليمان القانوني؟ هل هو المسجد الأقصى الذي يتوسط مدينة القدس. وبرز كعلم لها من السماء؟ أم كنسية القيامة القريبة منه؟ أم جبل المكبر الذي دخل منه عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس يقود جملا؟
هل هي شوارعها القديمة التي غنت لها فيروز؟ أم جبل الطور الذي منه ترى كل القدس كقطعة فنية رائعة امتزجت فيها كل الألوان بريشة مبدعها؟ الحقيقة لا يعرفها أحد ولا حتى هو، كل ما يعرفه أن القدس بالنسبة إليه روحه، وإلهامه، وسر وجوده.
إنها مصدر طاقته، وإصراره على الحياة.
في أواسط الثمانينيات استطاع أن يشتري قطعة أرض في منطقة كفر عقب التابعة لبلدية القدس حسب التقسيم الإسرائيلي، وبعد جهد طويل حصل على رخصة بناء وبنى عليها بيتا جميلا يعده قلعته الأبدية، وشبهه بقلعة صلاح الدين. شعر بالراحة بعد بناء البيت. قال لزوجته:
- لن يخرجونا منها لقد بنيت بيتا وجعلت له أساسات قوية، وهذه الغرفة أسفل العمارة، عبارة عن ملجأ نختبئ فيه إذا اندلعت الحرب من جديد. لن نهجر إلى أي مكان فإما أن نموت هنا، أو نعيش مع أولادنا وأحفادنا.
بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى العام () بدأت إسرائيل تقيم الحواجز على الطرقات لفصل المدن عن بعضها وفصل المدن عن القرى، ومع استمرار الانتفاضة وتصاعدها تحولت بعض تلك الحواجز إلى نقاط عسكرية دائمة، ووضعت الحواجز الترابية، والأسلاك الشائكة حتى بين حي وآخر، وأصبح المرور من منطقة إلى أخرى يحتاج إلى تصريح ويأخذ وقتا طويلا قد يمتد إلى يوم كامل مما عطل أعمال الناس، وحال بينهم وبين إنجاز أعمالهم. ولأن القدس مركز فلسطين الثقافي، والديني، والسياسي والصحي فقد تضرر كثير من المواطنين بمن فيهم سكان القدس، وصاحبنا سعيد أحدهم.
اشتدت المضايقات بعد انتفاضة الأقصى العام () وتصاعدت الأزمة حتى أصبح تجاوز نقطة التفتيش في قلندية التي تفصل كفر عقب عن وسط القدس يحتاج إلى ساعات، لذلك صار سعيد يحرص على الخروج من بيته مبكرا ليصل إلى محله في الوقت المناسب. أحيانا بعد صلاة الفجر، وبعض الأحيان قبل صلاة الفجر بقليل. لكن حتى تلك لم تضمن له الدخول. فالجنود العاملون في تلك النقطة كانوا كثيرا ما يغلقون الطريق كليا في وجه الداخلين باتجاه القدس دون إبداء الأسباب ويمنعون أي شخص من الاقتراب منهم ولا حتى سؤالهم لماذا؟ ولا متى سيفتحون الطريق؟
كان سعيد في تلك الحالة يجلس في سيارته يستمع إلى نشرة الأخبار، وأحيانا إلى إحدى الأغنيات الطربية، ولأنه سئم من سماع نفس الأغاني اشترى مجموعة من اسطوانات الأغاني لعشرات المطربين الجدد والقدامى، وكان ينتقل من اسطوانة إلى أخرى حتى يقرر أحد الجنود ويفتح الطريق.
وقد طورت إسرائيل نقطة الحدود هذه ووضعت لها إشارة ضوئية فإذا كانت الإشارة حمراء يعني أن على السيارات الوقوف بعيدا حتى يتغير لونها إلى الأخضر حسب مزاج الجندي المسئول. وعندما يتجاوز سعيد تلك النقطة فأمامه نقطة تفتيش أخرى أقل تدقيقا لكنها أكثر ازدحاما لأنها تجمع إضافة للقادمين من قلندية، وسمير أميس، وكفر عقب، ورام الله، القاطنين في الرام وضاحية البريد.
الانتظار صعب، ومن لم يجرب فليسأل سعيد الذي يقف بسيارته في طابور طويل ينتظر دوره للدخول. الطقس حار، السيارة لا يوجد فيها مكيف تبريد، من أين هل نحن في أميركا؟ يقول سعيد. يكتفي بفتح شبابيك السيارة ومسح العرق عن جبينه كل خمس دقائق. يحمل في السيارة علبة كبيرة من الماء المثلج الذي يتحول بعد ساعة إلى ماء ساخن من شدة حرارة الجو.
سعيد هذه المرة مع جاره الذي قرر أن يقبل دعوته ويستقل السيارة معه إلى القدس.
قال له جاره:
- متى ستزول هذه الحواجز؟
- تزول؟ يا جار ألا ترى السور الذي يبنونه؟ إنهم يفصلون القدس إلى نصفين. انظر سكان الرام سيصبح عليهم التوجه إلى قلندية قبل التوجه إلى القدس.
- إنهم يضايقوننا كل يوم. متى سيحل السلام؟
- سلام أي سلام؟ اليهود لا يريدون السلام.
- قصدك يريدون الأرض والسلام؟
- تمام يا جاري، يعني يريدوننا الرحيل ليصنعوا معنا السلام في المنفى.
- والسلطة؟
- السلطة؟ أية سلطة؟ كلهم مشغولون باللطش والسرقة ومصالحهم الخاصة، يعني إن غابت عنك زيهم زي الحكومات العربية.
- ألا يكفي اليهود يحاصروننا وجماعتنا يتقاتلون هذا حماس وهذا فتح.
- يا شيخ، خليها على الله. ما رأيك أن نسمع أغنية أحسن لنا.
لم تتحسن الأحوال بل زادت سوءاً، كثيرون انتقلوا للسكن خلف نقطة التفتيش، وآخرون لم يجدوا مكانا يسكنونه في القدس، حتى بيوت البلدة القديمة التالفة أصبحت تغص بالسكان، فاضطر بعضهم للبحث عن عمل في رام الله كي يهربوا من نقاط التفتيش العسكرية اليومية التي تضيع معظم وقتهم سدى. سعيد ظل صابرا كأنه من دم بارد. كان دائما يقول: ليس أمامنا خيار آخر، يريدون تطفيشنا ولكننا على صدورهم جالسون.
رزق سعيد بمولود جديد كان السادس بعد أولاده الخمسة (ثلاثة أولاد، وبنتان) فتوجه إلى مكتب الداخلية الإسرائيلية في القدس لتسجيله حتى يصدر له شهادة ميلاد. فرغم وجود السلطة الفلسطينية، فسكان القدس مجبورون للتوجه إلى داخلية إسرائيل لتسجيل أبنائهم، بعد انتظار طويل من الصباح الباكر حتى الثانية بعد الظهر وصل شباك تسجيل المولود الجديد. قدم أوراق مستشفى المقاصد في القدس، وبطاقته الشخصية، المولود الجديد اسمه صابر. صابر الاسم الوحيد الذي اختاره سعيد ليصف نفسه في مواجهة التطبيقات الإسرائيلية على أهله وبلده.
نظرت الموظفة اليهودية في بطاقته، ثم في جهاز الكمبيوتر الذي أمامها، بعد ثوان قالت له:
- بطاقتك يا سعيد مسحوبة، انتظر قليلا.
حملت البطاقة وغادرت مقعدها.
كان سعيد مبهوتا بما قالته:
- مسحوبة؟ كيف أنا أسكن في القدس ولم أغادرها.
عادت بعد لحظات بدون البطاقة، قالت له:
- المدير يقول إن بطاقتك ملغية لأن مكان سكنك أصبح تابعا لمنطقة ج، أي خارج حدود بلدية القدس.
- ماذا تقولين؟ عندي رخصة بناء صادرة من بلدية القدس.
- هذا المخطط أقر منذ سنة تقريبا.
- وبطاقتي، وعملي؟
- لا أعرف، هذا ما قاله المدير.
- أريد بطاقتي، لا تسجلي الولد.
- بطاقتك مسحوبة ولن تعاد إليك.
- ماذا تقولين أين المدير، أريد الحديث معه.
- اخفض صوتك حتى لا أستدعي لك رجال الأمن.
- ولكنك صادرت بطاقة الهوية وتعرفين أن الجيش يدقق في هويات المواطنين العرب كل لحظة.
- دعني أرى ما يقول المدير.
غابت ثم عادت بعد لحظات مع رجل كبير في السن يلبس نظارات سميكة وعلى رأسه طاقية يهودية سوداء.
ابتسم له ابتسامة صفراء، وسأله:
- ماذا تريد؟
نظر إليه سعيد بغضب وقال:
- أريد البطاقة التي صادرتها.
- هذه البطاقة مسحوبة لأنك لا تقيم في القدس.
- وبأي قانون تسحبها؟
- قانون القدس.
قانون القدس؟ وأين سأعيش؟
- ليس مشكلتي، اذهب إلى السلطة.
- ولكنني من سكان القدس ومواليدها ولن أتركها.
- أنت حر. أدار المدير ظهره وعاد إلى مكتبه.
ماذا يفعل سعيد الآن؟ هل يلحق ويحطم الباب؟
سيلقون به في السجن. هل يصرخ؟ هل يشتم؟
لن يعيدوا له بطاقته. هل يستسلم؟ لا لكن ماذا سيفعل الآن؟
ترك المكتب وهو حائر، يسير في الشوارع بدون بطاقته، ماذا سيفعل؟ ماذا سيقول للجيش عندما يسألونه على الحاجز أين بطاقتك؟ هل سيسمحون له بالعبور أم سيعيدونه من حيث جاء؟
توجه إلى مكتب المحامي جواد على الفور وشرح له قصته. فقال له المحامي:
- علينا رفع قضية لإعادة بطاقتك، لكن نجاحها غير مضمون.
- غير مضمون؟ كيف؟ لماذا؟ أنا لم أخرج من القدس ولم أسكن خارج حدودها، عندما بنيت البيت كان ضمن حدود القدس. هم الذين غيروا خارطة المدينة لتضم أكبر نسبة من السكان اليهود، وأقل عدد من السكان العرب. هذا ليس ذنبي.
أنا لا أطالب أن يغيروا خارطتهم هم أحرار في أن يغيروا ما شاءوا ماداموا يحتلونها، لكن ليس من حقهم أن يطردوني منها بجرة قلم.
عاد مساء إلى البيت، لاحظت زوجته تعابير الغضب المرسوم على وجهه، سألته:
- خير إن شاء الله؟! أراك غاضبا؟ كأنك تشاجرت مع أحد؟
- ليت الأمر كذلك؟
- ماذا إذن؟ أخبرني ماذا حصل؟
- ذهبت إلى الداخلية لتسجيل صابر لإصدار شهادة ميلاد له فصادروا بطاقة هويتي وقالوا لي أنت لم تعد من سكان القدس.
وضعت يدها على خدها وقالت له وقد قطبت حاجبيها:
- يا لطيف، وماذا فعلت؟
- ماذا أستطيع أن أفعل، والحراس والجنود يملأون المكتب خرجت من عندهم بدون بطاقة، أحمد الله أنه لم توقفني أية دورية وتسألني عن البطاقة.
- وماذا ستفعل؟
- لقد ذهبت إلى مكتب المحامي ووكلته لمتابعة الأمر فنصحني كي نستطيع كسب القضية أن أنتقل لمكان آخر لأن بيتنا الآن أصبح خارج حدود القدس.
قالت له:
- كنت أشعر أن شيئا يدبر لنا، ألا تذكر أنهم لم يرسلوا لنا فواتير ضريبة البيت هذا العام؟ قلت لي حينها ربما نسونا، وقد قلت لك...
- أعرفت قلت «إن اليهود مكارين لابد وراء ذلك أمر خطير». وبالفعل هذا ما حصل.
- إذن سيسحبون بطاقتي أيضا؟
- لقد أخبروني أن كل سكان المنطقة سقطت بطاقاتهم من مكتب الداخلية وأنها غير صالحة لشيء.
- الكلاب؟!
- ل
العدد 3093 - الأربعاء 23 فبراير 2011م الموافق 20 ربيع الاول 1432هـ