شفيق الغبرا - أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www
21 فبراير 2011
بقدر ما أبكى نظام الرئيس السابق حسني مبارك الشعب المصري حزناً، نجده وقد أبكاهم فرحاً عندما حققوا انتصاراً فتح الباب أمام حريتهم وانعتاقهم التاريخي.
الدكتاتورية والقمع والبطالة والفساد لا تحدّ من المقدرة الفطرية والذكاء الجماعي للشعوب عندما تكتشف نقاط ضعف النظام فتطرحه أرضاً في لحظة منازلة تاريخية.
هذه قصة متكررة عبر التاريخ المديد للأمم والحضارات، فالأنظمة تنهار بفضل ذلك التناقض الذي يتطور عبر الزمن بين حاجات المجتمع وأحلامه، وبين سطحية الأنظمة وأفعالها ومحدودية رؤيتها واحتكارها للسلطة (وهو الأهم)، وبين عزل بقية قوى المجتمع.
وبينما تجدد الأنظمة الذكية نفسها بواسطة تداول السلطة وحماية الحريات ومواجهة الفساد، نجد أن الانظمة التقليدية تتآكل من دون أن تشعر أنها سائرة نحو لحظة اشتعال.
وفي لحظة الصدام الأهم، تتخلى الطبقة الطفيلية المستفيدة الملتصقة بالنظام الذي يحتكر السلطة عن رئيس البلاد والنظام الذي فتح لها أبواب الاستفادة غير المشروعة، فتتركه وحيداً.
تبين في مصر أن النظام هشّ ومفكك، لأنه بني على قواعد شكلية وأسس قسرية لا تتماشى والطبيعة الانسانية التي تحركها العدالة.
في التاريخ الانساني، هوت الأنظمة التي تحتكر السلطة السياسية عند كل امتحان مصيري. ستبقى في الحاضر صرخة العدالة والحرية والحقوق وتداول السلطة قادرة على قلب أكثر الانظمة قوة بين ليلة وضحاها.
وكم من اختلاف بين الماضي واليوم، بين لحظة جيلي في سبعينيات القرن الماضي وبين لحظة الجيل الراهن ، ففي السبعينيات لم يكن هناك «يوتيوب»، ولا انترنت ولا «فيسبوك» ولا هاتف نقال يصور الحدث، كما هو حاصل اليوم.
قصص تصفية المدن وحرقها وقتل ألوف الناس وتصفية المعارضين في كل مكان وبدم بارد سادت القاموس العربي في السبعينيات.
تلك كانت الطريقة المتبعة لترويض الشعوب العربية، ففي الكثير من البلدان العربية قصص تقشعر لها الأبدان، كما حصل إبان انتفاضة فاس في المغرب العام ، وحوادث شبيهة في ليبيا والعراق والجزائر وسورية (حماه وحمص) واليمن، وبالطبع في الحرب الأهلية الأردنية الفلسطينية العام ، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، والأهلية الجزائرية... وغيرها.
مع العام ، اختلف كل شيء، فالتنكيل يُنقل عبر العالم بالصورة والصوت عبر المحطات ومن خلال هواتف المواطنين.
فضائح القتل تصل إلى بقية أبناء الشعب، بما فيه الجندي والضابط، مما يساهم في إسقاط الدعاية الرسمية بلحظة واحدة.
في مصر مثلاً، فقد النظام نصف شرعيته عندما أرسل الجمال والقتلة والبلطجية ليضربوا المتظاهرين المسالمين، وفقد نصف شرعيته الأخرى عندما رأى مزيداً من الناس ينضمون للثورة.
لقد دخل العرب في زمن الاستقلال الثاني.
الاستقلال الأول كان في مواجهة الاستعمار، أما هذا الاستقلال، فهو تأكيد لمبدأ أن الشعب مصدر السلطات جميعاً وأساس الشرعية.
أهداف هذا الاستقلال بسيطة: كل الناس يريدون الكرامة الإنسانية والمشاركة الحقة والحرية السياسية والشخصية وعملاً منتجاً وأماناً اقتصادياً وشعوراً بالمساواة والحقوق.
وكل الناس يريدون القضاء على الفساد، لأنه يسرق عملهم وإنتاجهم، ويريدون قضاءً مستقلاً ويسعون لانتخاب مسئوليهم وقادتهم، وكل الناس يريدون تغيير وزرائهم إن لم يحققوا لهم أهدافهم.
المجتمعات العربية تبحث الآن عن زعماء يتصرفون بحرص على الناس.
الشعارات القادمة في الحركة العربية بسيطة: حرية - عدالة اجتماعية - كرامة - حقوق - تداول السلطة... وفي بعض الحالات إسقاط النظام العاجز عن إصلاح حاله.
إن البلاد العربية في بداية طريق جديد تشكِّله مطالب شجاعة يحمل لواءها جيل شاب يسعى إلى فرض حالة تغيير شامل في بعض الأنظمة، بينما يسعى لإصلاح بعضها الآخر.
الإصلاح يعني فرض تنازلات أساسية على النخب العربية الحاكمة تتنازل بموجبها عن احتكار السلطة. لكن رفض الاصلاح سوف يعني ثورات لا حد لطموحها، مما سيهوي بعدد من الأنظمة العربية.
في المرحلة القادمة، سنعيش وسط عاصفة رملية عاتية، وبعد انتهاء العاصفة لن نكون نحن أنفسنا كما كنا قبلها، سنكون مختلفين روحاً وعقلاً. عودة مصر إلى مصر هي بداية الطريق لعودة مصر إلى العرب. وهذا سيعني الكثير: فقد اكتشف المصريون، وقبلهم بأيام التونسيون، آليات التغيير، وأكدوا لبقية العرب أن هذه الآليات قابلة للتحقيق والتصدير. من تونس الى مصر وقع التصدير الأول للثورة، والآن سيقع التصدير الثاني من مصر الى ليبيا واليمن وغيرهما، فكل الثورات تصدِّر الثورة، وإن لم تصدر الثورة بصورة مباشرة ستفعل ذلك من خلال النموذج والأفكار والوسائل والطرق. سيصدَّر النموذج المصري والتونسي حتماً، إلاّ إذا قامت الأنظمة العربية بحماية نفسها من الثورة عبر القيام بإصلاحات كبيرة تغير المضمون وتطور الأوضاع وتسمع صوت الشارع. عودة مصر ستعني بروز كرة ثلج بألوان مختلفة من الأفكار والكتب والأبحاث والأفلام والمسلسلات والأدب والشعر والرواية والتعليم والمدارس. نحن على أعتاب ثورة ثقافية ستصاحب الثورة الشبابية وتمهد لعالم عربي ديمقراطي ومختلف.
لقد بدأ الشباب في العالم العربي بتجاوز نخبهم السياسية بكل أصنافها، وبتجاوز اللغة التقليدية للنخب. لقد قضى الكثير من الدول العربية على جميع الرموز والنخب الوسطية، وفَرَّغت الأحزاب المعارضة من قيمتها، وخلقت وضعاً يجعل الناس يتناقضون بعضهم مع بعض على أبسط المسائل الطائفية والعائلية والفئوية.
هذه السياسات أقنعت المجتمعات بأنه لا بديل من النظم سوى الانهيار أو التطرف الاسلامي.
الثورات الجديدة تقول لنا: هناك طريق ثالث سلمي ووسطي وديمقراطي، والخيار ليس بين النظام والتطرف الإسلامي والفئوية، بل بين النظام والقوى الشبابية والشعبية والديمقراطية.
ثقة جديدة تمتد الآن بين العرب من ليبيا ومن اليمن والبحرين الى سورية، ومن الأردن الى بقية الأقطار العربية، بما فيها إيران.
لقد بدأت مرحلة تاريخية لها مميزاتها وخصائصها، ومعها ينبعث إنسان عربي تنتجه كرامة جيل.
إننا نمر بعاصفة رملية كبيرة نسير وسطها، بينما نبحث عن طريقنا ونتأقلم مع تقلباتها ومفاجآتها.
سنصل الى نهاية، وسنكون مختلفين، بعد انقشاع العاصفة وعودة النور الى بلادنا.
العدد 3091 - الإثنين 21 فبراير 2011م الموافق 18 ربيع الاول 1432هـ