تحدثت قبل يومين عن تزاوج الفساد مع السلطة في مِصْر وما أدَّاه ذلك إلى غضب جماهيري أطاح بنظام الرئيس حسني مبارك في غضون 18 يوماً. ذلك التزاوج أدَّى إلى اختلال في ميزان الدولة وأضَرَّ بقيمتها المعنوية لدى الناس، وبحالها أيضاً والذي لا يليق أن تجترحه دولة ما في العالَم بجانب ممارستها للطغيان. بالتأكيد فإن ذلك التزاوج قد أنْجَبَ ثقافة استيلاء على المال العام بصورة نَهِمَة من قِبَل عوائل أخرى متحالفة. وعندما ترسَّخَت تلك الثقافة أصبح الحال مُزرِياً إلى الحد الذي باتت فيه البلد أشبه ما تكون بـ «رُكْنٍ للسُّخْرَة» لدى قلّة قليلة.
تكرّر هذا المشهد في العديد من الدول العربية بشتى أشكال الحكم فيها. بعض من تلك الدول أصبح أمام نُدر انتفاضة؛ على اعتبار أن مشتركات الرفض (للفساد) واحدة. ضمن هذه المفردة وَدَدْتُ لو أن نطِلّ على جزء مهم من التاريخ البشري الذي جعل من ذلك الأمر (تزاوج الفساد مع السلطة) مِخْرَزَاً للتغيير في أوروبا. وكيف أن أحوال تلك البُلدَان المترديّة على مستوى التعليم والاتصال لم تمنع من قيام ثورات هناك وبشكل راديكالي أحياناً كما هو الحال في فرنسا بعد الثورة وفي غيرها من البُلدَان الأوروبية التي شَهِدَت تغييراً.
في تلك الفترة كانت أوروبا تعيش أقسى أنواع الاستعباد والاستئثار بالسلطة والثورة معاً وبشكل متلازم، الأمر الذي جعل من المجتمع الأوروبي مُقسَّماً على كانتونات اجتماعية طبقية ما بين عوائل مالِكة وعوائل ارستقراطية وأخرى مُستعبَدة. لك أن تتخيّل أن الامبراطورة كاترين الكبرى التي حَكَمَت روسيا بين العامين 1762 - 1796 مَنَحَت مُريديها وحاشيتها ما بين 40 و50 ألفاً من عُمّال السّخرة التي كانت تملكها. أما عائلة ردازفيل البولندية فقد كانت تمتلك من الضّياع ما يعادل نصف مساحة بولندا. وكان بوتوكي يملك ثلاثة ملايين فدّان في أوكرانيا، وأسرة استرهازي البلغاريّة كانت تمتلك ما يقارب الـ 7 ملايين فدّان.
ويذكر التاريخ أيضاً، أنه وفي العام 1918 صودِرَت في تشيكوسلوفاكيا وحدها أكثر من 80 ضيعة تزيد مساحة كل منها 25 ألف فدّان، بينها إقطاعات تبلغ مساحتها 500 ألف فدان من عائلتي شوبنورن وشفارزنبرغ، و400 ألف فدّان من أسرة ليختنشتين، و170 ألف فدّان من عائلة كينسكي. وكانت القناعة، أن كلّ من يمتلك عزبة لابدّ من أن يكون وجيهاً أو نبيلاً وعضواً في الطبقة الحاكمة. (راجع كتاب «عصر الثورة أوربا 1789 - 1848م لـ إريك هوبْزْباوْم).
كان ذلك الحال لا يُطاق. حيث أحزِمة الفقر منتشرة على مدّ البصر وكأنها بحر ساكن. والتمييز قائم على قدم وساق. والأكثر أن مستوى توزيع السلطة كان محدوداً جداً إلى الحد الذي جعل من بعض أنظمة الحكم تسري في عِرْق مُعيّن ضمن عائلة مُعيّنة. وكان الفلاح يُسدّد الإيجار إلى مالِك الأرض، أما إذا كان يتمتّع بالتملّك المطلق للأرض التي يحرثها فإن عليه إرسال الذُّرَة إلى مطحنة المالِك، ودفع الضريبة للأمير، والأعشار للكنيسة على حدّ هوبْزْباوْم. كانت أوروبا بهذه الشاكلة. فكانت مُهيّأة في كل لحظة لأن تشهد تغييراً عبر ثورات وانتفاضات يقودها أهل السُّخرَة والفقراء وبعض الجماعات التي أحسنت تنظيمها جيداً.
في تلك الفترة اعتمدت العوائل الحاكِمة والمتحالفة معها على أمرين مهمَّيْن.
الأول: نسبة الأميّة التي كانت مُستشرية في المجتمع الأوروبي، والأمر الثاني هو بدائيّة وسائل الاتصال. فيما خصّ الأمر الأول فإن المعروف أن التعليم والمعرفة هما دعامتان أساسيتان للحِراك الاجتماعي والسياسي. وفي تلك الفترة كانت العائلات الأرستقراطية تستعين بمُعلِّمِيْن خصوصيين لتعليم أبنائها بسبب رداءة التعليم وانتشار الأمية. وحتى جامعتا أوكسفورد وكامبريدج البريطانيتان كانتا متخلّفتين جداً. ولم تكن تُوجد صحف نَشِطة يقرؤها الجميع. ففي فرنسا على سبيل المثال لم تكُن أي صحيفة لتُطبع أكثر من 5000 نسخة. بل إن الناس كانوا يتداولون الأخبار عن طريق المسافرين والتجار الذي يحطّون رحالهم مرة هنا وأخرى هناك.
في الأمر الثاني والمتعلق بوسائل الاتصال، فإنه وخلال تلك الفترة كان على الأوروبي الذي يُريد الانتقال من لندن إلى غلاسغو أن يمضي 12 يوماً في مسيره. وكانت خدمة البريد بين باريس وستراسبورغ تستغرق 36 ساعة. وكانت خمسة أسداس البضائع الفرنسية تُنقَل بسرعة عشرين ميلاً في اليوم. ولم تكن رحلات البريد تذهب إلى السويد والبرتغال سوى مرة واحدة في الأسبوع. وإلى الولايات المتحدة سوى مرة في الشهر. وقد وصلت أخبار سقوط سجن الباستيل الفرنسي إلى مدريد خلال ثلاثة عشر يوماً، بينما لم تصل إلى بلدة بيرون التي لا تبعد عن العاصمة باريس أكثر من 133 كم إلاّ بعد ثمانية وعشرين يوماً. (راجع المصدر السابق).
رغم كلّ ذلك الضعف في وسائل التواصل البشري وتردّي قدرات الأفراد في استيعاب المشاريع السياسية نتيجة التعليم المتخلف وانتشار الأميّة فإن الحال لم يمنع من انفجار شعبي ضد أنظمة الحكم السياسية الحاكِمة آنذاك. بل إن الصياغات الخطابية والسياسية التي أنتجتها الثورة الفرنسية وتمثّلت في الجيرونديون واليعاقبة على سبيل المثال أبرزت دوراً كان مكتوماً لجماعات رشَّقَتْ من قوامها السياسي والفكري وسط تسلط وديكتاتورية الأنظمة الرجعية التي كانت تحكم أوروبا في تلك الفترة.
كل ذلك العرض يُمكن أن يُرمَى على أوضاعنا في العالَم العربي. فأغلب الأنظمة باتت مُلكاً عضوضاً لا يُقتَرَب منه، فضلاً عن امتزاج ذلك مع حالة من الفساد المُفجِع. وإذا كانت أوروبا في تلك الفترة تشهد حالة من الأميّة المتفشيّة وقِلّة في وسائل الاتصال فإن اليوم لا يبدو أن غير قوّة تعليمية نابهة باتت تسيطر على مشهد المجتمع العربي. بل وحتى البطالة باتت بطالة نابِهة هي الأخرى فهي ليست مُقنّعة ولا أميّة. أما عن وسائل الاتصال فإن وجود الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية والإنترنت قد جَبَّت كل ذلك التاريخ من التعتيم وجعلت من المجتمعات والدول مفتوحة ومفضوحة. لذا فإن حال التغيير في عالمنا العربي مُهيَّأ أكثر من أيّ مكان في العالَم، وبوتيرة أسرع وبشكل دراماتيكي قد لا يتخيّله أحد.
وإذا كانت الأنظمة الرجعية في أوروبا قد أنفقت عشرين عاماً من القتال ضد الثورة الفرنسية دون أن تستطيع إخمادها أو الحد من انتشارها وتمدّدها، فإن دول العالَم العربي اليوم حتى ولو أنفقت قرنين من الزمان فإنها لن تستطيع إيقاف موجات التغيير العارِمة التي بدأت في تونس ووصلت إلى مِصْر وتستقر اليوم في أعناق العديد من الدول العربية. أقصى ما يُقدَّم من نصحٍ اليوم للأنظمة هي أن تتخلّص من لازمَتَي الإشكال اللتين تجثمان فيها: الفساد والطغيان. وإذا ما لم تجِد تلك الأنظمة طريقاً لفعل ذلك فإنها ستُمسِي عالة على نفسها وعلى غيرها إلى الحدّ الذي يُصبح زوالها أكثر من معقول.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3090 - الأحد 20 فبراير 2011م الموافق 17 ربيع الاول 1432هـ
الملك لله
الكل الى فناء نسوا باتهم لابد ان يحملوا فوق الاعناق ويزفوا للقبور المظلمه زما اشد ظلمتها من ظلمهم
أحسنت..
مقال ممتاز، و يعكس الحال عندنا، فمن يسرق يرقى لأعلى المناصب حتى يستفاد من خبرته!