طَرَحَت ثورَتَا تونس ومِصْر تسَاؤلاً غريباً لكنه مشرُوع. ما الذي يجمَع بين إزِار الجينز وتسريحة السبايكي وبين مَنْ قاموا بالثَّورَتَيْن؟ هل أن هؤلاء الذين يسهرون الليل مُتنقّلين ما بين مقاهي الشِّيشَة ومحلات الوجبات السريعة، ويرفعون أصواتهم في الشوارع ضحكاً دون احترام لأحد لا للذين هم في البيوت ولا بين المارَّة قادرون على أداء دور تغييري كالذي جَرَى في تونس ومِصْر؟
الحقيقة أن ذلك الاستفهام بات حقيقياً. لكن ما هو ليس بحقيقي هو الخلط بين كلِّ تلك الأشياء. أي الرَّبط ما بين انغماس المجاميع الشبابية مع موضات اللباس وبين قدرتهم على التغيير السياسي، وهذا خطأ. إن الأهم في الموضوع ليس في الرَّبط فقط (الشباب/ الموضة/ التغيير)، وإنما ليتعدَّاه نحو أمور أخرى تعيد التوازن إلى الشخصية الشبابية لتحوِّلها من مسار مُبتَذَل إلى مسار شخصي ناضج ينتمي إلى حالة ذهنية واعية ونابِهَة.
أقرب صُور التحوُّلات التغييرية إلينا هي الثورة المصريّة الأخيرة. لقد كان الحضور الشبابي طاغياً عليها. ورغم أن هذا الحضور الشبابي كان يتَسربل بلباس الموضة المعروف إلاّ أنه لم يَكُن ينتهي إلى حدِّها فقط، وإنما تعدَّاه إلى الحد الذي يصنع لأولئك الشباب هويتهم من خلال استخدامهم للمُدوّنات الشخصية ومواقع التواصل الاجتماعي التأثيريية وإعطاء وجهات نظر فيما يجري حولهم وبشأنهم من أحداث سياسية واجتماعية وفكرية وحتى دينية.
قبل ثلاثة أعوام إلاّ شهرين بالتحديد ذَكَرَ مجلس الوزراء المصري عبر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع له أن عدد المُدوّنات الشخصية الذين يستخدمها أشخاص تقع أعمارهم ما بين 20 و30 سنة وصل إلى 160 ألفاً. ولأن نسبة الفُتوَّة المصرية كانت تُشكّل 28 في المئة من الشعب المصري، فقد ظهر أن نصف المدونين العرب هم مصريون، بمعنى أنها طبقة شبابية واعية.
بالتأكيد لو انتهى الأمر لأولئك الشباب إلى لبس الموضة وتسريحات السبايكي فلن يُنتِجوا شيئاً لا على مستواهم ولا على مستوى البناء المجتمعي، لكن انتقال الحدّ إلى حالة فكرية مُعينة وبمستوى ملحوظ من الوعي يجعل الاهتمامات الشبابية أكثر قدرة على اقتناص الفرص وعلى التغيير، مدفوعة بكمّ هائلٍ من المعلومات المُوظَّفَة والموجَّهَة بشكل سليم وصحيح. فأن تملك عقلاً جيداً شيء وأين تضعه شيء آخر.
حين يصل الإنسان إلى مرحلة من التفكير واستحصال المعلومة فإن بوصلته تُصبح قادرة على التوقّع، وهي من أكثر المراحل الذهنية نشاطاً لأنها تتموضع على خط استشراف المستقبل ومُجرياته وابتكار الحُلُول وإنتاج السيناريوهات والإقدام والانسحاب من المعارك حسب القراءة والنظر. وعندما لا يصل الإنسان لتلك المرحلة فإنه يبِيْت مُحنَّطاً غير قادر على فهم الأمور كما يجب، ولا الحديث بما يتوجّب فضلاً عن الفِعْل المُؤثّر. طوبى لمن لا يتوقع أي شيء، فإن ظنه لن يخيب أبداً حسب تعبير الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب.
في جميع الثورات والانتفاضات لعِبَ الشباب دوراً مهمّاً وكبيراً نتيجة امتلاكهم وَهَج القوّة العضليّة. لكن ليس كلّ الثورات والحركات كانت تنجح ليس بسبب ذكاء أو قمع الأنظمة السياسية لها فقط، وإنما لقصُور في الأفهام انتاب المتظاهرين الشباب حين أصبح هامش الاعتماد في الحركة (بالنسبة لهم) على فَوَرَان العُمر وليس العقل والتفكير غير السالِب.
باختصار شديد، لا عُمرُ الشباب ولا موضات الملابس ولا أكْل الوجبات السريعة ولا تدخين الشِّيشَة ولا ابتذال الأخلاق في الشوارع بقادرة على صنع جيلٍ تغييري ولا واقع مُغَيَّر، وإنما محاكاة الحياة والمعرفة وإمعان النظر في الأشياء وإبداء الرأي فيها بتعقّل هي دُفُوع التغيير وميزانه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3086 - الأربعاء 16 فبراير 2011م الموافق 13 ربيع الاول 1432هـ