ليس هناك من يحسد البحرين على ما آلت إليه أوضاعها خلال الأيام القليلة الماضية. من يتابع الأخبار، أو يتجول في الشوارع، يخشى على البحرين من المستقبل المظلم الذي ينتظرها، والحاضر الخطر المحدق بها. قد يفرح البعض في كونه نجح في تأجيج الشارع السياسي، وربما هلل البعض الآخر لكونه وفق في بسط نفوذه على هذه الفئة أو تلك الطائفة، ولن نعدم من ينبري كي يتشدق بأنه استطاع أن يلوي يد «الخصم»، وإرغامه على تقديم تنازل، كان، ذلك الخصم، إلى وقت قصير يرفض الدخول حتى في مجرد الحديث بشأنه.
من يبتعد قليلاً إلى الوراء، ويترك مسافة كافية بينه وبين الشارع السياسي البحريني، ويطل على ذلك الشارع من بعيد، بنظرة موضوعية غير منفعلة، ويحاول أن يرسم صورته الكاملة البعيدة عن أية مساحيق «تمويهية» تجاهد كي تخفي تلك المساحات البشعة التي باتت تشوه صورته - الشارع السياسي - النهائية، وتمسخ وشائج روابطه الاجتماعية، سيكتشف بعض المعالم غير المحببة التي باتت تطفو على سطح صورة ذلك الشارع. ولكي نقرب الصورة من ذهن القارئ، يكفي التنويه إلى المسيرات التي تعم شوارع المحرق، وبالقدر ذاته، الهتافات التي تشق عنان السماء في «دوار اللؤلؤة» .
قبل تشخيص فهمنا للظاهرتين، لابد لنا من التأكيد على حقيقتين أساسيتين هما:
الأولى، بغضّ النظر عما جرى في مصر، ليس من حق أحد أن يشجب سلوك الجماهير عندما تخرج في مسيرات سلمية تعبّر فيها عن مطالبها المشروعة التي تبيحها لها مواد الدستور أولاً، ولوائح القوانين ثانياً وليس أخيراً. فليس هناك من ينكر على مجتمع متحضر راغب في التطور، ومتعطش للتغيير، خروج جماهيره مطالبة بتلك الحقوق التي تؤهلها لتحقيق ذلك، عوضاً عن الرضوخ للأمر الواقع، والقبول بآلياته القاتلة. فالشعوب المتحجرة، هي وحدها التي تقبل على نفسها أن تبقى ساكنة، كي تسيطر عليها الروح الإستاتيكية التي تسلب منها عناصر الإبداع، وتجردها من عوامل الابتكار التي تسير بها نحو الأمام، من أجل تحقيق أحلامها في بناء مجتمع معاصر تسيّره قوانين «المملكة الدستورية»، التي بشرت بها مشروعات إصلاحية، وكرستها الدساتير، كما شاهدنا ذلك في البحرين في مطلع هذا القرن. لكن، وعلى قدم المساواة، ليس هناك من يقبل أن تتجاوز تلك المطالب حدود القانون، وتضرب عرض الحائط بركائز الأمن الاجتماعي أو تتصدى لمحاربة التطور السياسي غير العنيف.
الثانية، وهي المقابلة للأولى، والتي ينبغي أن ترفض ردود الفعل «الغوغائية»، التي ترتدي عباءاتها بعض العناصر الموتورة المعادية في تفكيرها وسلوكها، على حدٍّ سواء، للمشروع الإصلاحي برمته، ولذلك نجدها لا تألو جهداً من أجل تشويه صورته في نظر المواطن العادي، وعلى وجه الخصوص القطاع اليافع منه. ولذلك نرى تلك العناصر غير السوية في سلوكها السياسي، لا تكف عن محاولاتها الهادفة إلى استغلال اندفاع الشباب والاستفادة من حماسهم، كي تقذف بهم في أتون مسيرات مضادة للأولى تقوم بها تحت شعارات تبدو منادية بالديمقراطية، ومدافعة عن المشروع الإصلاحي مظهراً، لكنها تنفث سمومها الطائفية المعادية للديمقراطية جوهراً. ما جرى بالأمس في شوارع المحرق، لا يمكن أن يقود، مهما ادعى من يقف وراءه، إلى بناء بحرين تتعايش تحت سمائها طوائف مختلفة، تنتمي إلى مذاهب متعددة.
على أرضية فهمنا لهاتين الظاهرتين، وفي ضوء تداعيات الأحداث التي عرفتها البحرين خلال الأيام المعدودة الأخيرة، يمكننا تشخيص مواصفات المعارضة السياسية التي أصبحت البحرين بحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى. نحن بحاجة إلى قيادة حكيمة، والحكمة لا يمكن أن يكتسبها من لا يتمتع برباطة الجأش. أو المقصود برباطة الجأش، هو ذلك المستوى القيادي الذي لا يدع عواطف الجماهير تجرفه بعيداً عن أهدافه الاستراتيجية، فيضطر، استجابة لعفوية تلك الجماهير، أن يضحي بتلك الأهداف على مذبح بعض المكاسب الآنية التي تمده بشيء من الشعبية، وتلهيه ببعض الإنجازات التكتيكية على حساب تلك الاستراتيجية. حكمة القيادة تنبع من رباطة الجأش التي تزود القادة بما يحتاجون من شجاعة التي تغذي حكمتهم، فيبادرون للإفصاح عما يرونه صائباً، وتمدهم بالقدرة على مواجهة الصعاب دون وجل، يقلص من حكمتها، أو يشوهها.
ولا يمكن للحكمة أن تؤتي أوكلها ما لم تكن منزرعة في أرض واسعة الصدر، تقبل بالتعايش مع من تختلف معهم، ولا تصادر حقهم في ممارسة طقوسهم الفكرية، والتعبير عن مكنونات معتقداتهم الدينية والمذهبية. ففي غياب سعة الصدر هذه، تفقد الحكمة ورباطة الجأش، على حدٍّ سواء، قدرتهما على الاستماع الشجاع للطرف الآخر، والفهم الحكيم لما يدعو إليه، كي يثمر ذلك الاستماع والفهم، تلاقحاً حضارياً وفكرياً ينعش التعددية المذهبية والفكرية، ويشرع أمامها الأبواب واسعة كي تلج منها وتتفاعل فيما بينها.
وتفقد القيادة كل إيجابيات الحكمة، ومقومات الصمود المستمد من رباطة الجأش، وتسيطر عليها آلام الصدور الضيقة، ما لم تعزز مواصفاتها الإيجابية بنظرة واسعة بعيدة المدى، تعينها على رؤية الأهداف البعيدة الكبرى، وتعمل من أجل الوصول إليها، دون التضحية، بأي شكل من الأشكال، بتلك المكاسب التكتيكية الصغرى، التي تشكل الوقود اليومي الذي يمد حركة الجماهير بما تحتاج إليه من ديناميكية تمكنها من الاستمرار والنمو. بعد النظر هذا، ينفخ في روح القيادة المطلوبة الثقة بالنفس التي تؤهلها للدخول في المساومات، دون الخوف من فقدان سيطرتها على شارعها، الذي زرعت فيه، من خلال حكمتها، ورباطة جأشها، وسعة صدرها، بذرة الثقة التي تحتاجها كي تواصل نظرتها البعيدة الواسعة التي تقرأ الحاضر، كي تهيئ جماهيرها لما يعدها به المستقبل.
والمواطن البحريني يتطلع اليوم إلى قيادة بمثل هذه المواصفات.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 3086 - الأربعاء 16 فبراير 2011م الموافق 13 ربيع الاول 1432هـ