العدد 3085 - الثلثاء 15 فبراير 2011م الموافق 12 ربيع الاول 1432هـ

مغارة جعيتا... التنمية والحرية... وأشياء أخرى

مشاهدات على هامش جامعة صيفية

جولة سياحية في غرائب مغارة جعيتا، وقوارب صغيرة تنقل الزائر عبر مسطح مائي متعرج يقطع سكونه هدير المياه الجوفية للمغارة، مشاهد مدهشة لأعمدة الصواعد والنوازل، ومنحوتات أبدعتها يد فنان خرافي... فعلا هي من عجائب الدنيا... عيون المشاركين في الجامعة الصيفية لمنبر الحرية شاخصة من رهبة المكان... صمت غريب يلف من يرون المغارة لأول مرة، وصور تذكارية مع (حارس الزمن) الرهيب الواقف على مدخل المغارة بأناقة لبنانية لا تخلو من صلابة، وتزداد الدهشة اتساعا بالتئام محاضرين دوليين عرب وباحثين لمدة ستة أيام في حريصا اللبنانية... على لافتة تغلفها الزرقة بجريدة محلية انطبع شعار براق «الجامعة الصيفية لمنبر الحرية ببيروت تحت شعار العالم العربي وتعثر استراتيجيات التنمية».


أمل وغير قليل من الإحباط

هنا بأعلى الجبل حيث حريصا وسيدة لبنان، وبعيدا عن أجواء بيروت الملتهبة بالسياسة وأخبار القرار الظني، أمضى أكثر من خمسة وثلاثين باحثا عربيا ستة أيام دراسية، تجمعهم هواجس واحدة، اختزلها شعار الدورة الثانية للجامعة الصيفية لمنبر الحرية في «العالم العربي واستراتيجيات التنمية».

محاضرات في السياسة والتنمية والحرية والديمقراطية والاقتصاد، زوايا متعددة، وخليط من التجارب والأمل وغير قليل من إحباط العجز عن اللحاق بركب الحضارة الإنسانية.

الشغب الفكري الجميل للمشاركين والمشاركات يكسر رتابة فندق بيت عنيا، حين ترتفع أصواتهم أو ضحكاتهم، أما مدير مشروع منبر الحرية نوح الهرموزي، فلا يتوقف عن وصف التجمع بأنه «بادرة تؤسس لمقاربات بديلة تنتهي مع المقاربات النمطية».

لهجات ولغات المشاركين تحظى بالنصيب الأوفر من التعليق... مغربية وعراقي يتحاوران، في أكثر من مناسبة يصير المشهد كاريكاتيريا، كلمات عادية هنا ومعيبة في الجهة الأخرى، لذة الاكتشاف تقرب أكثر أردنية وليبياً، وراندا لا تنتهي من التساؤل وفي عيونها حيوية شعب أردني فرضت عليه الجغرافيا محاذاة جارة متوثبة للعدوان في كل وقت وحين... وبعد هذا وذاك آمال كبيرة في المستقبل مع غير قليل من التشكيك أمام ضعف رياح التغيير المستعصي على العالم العربي... تعدد لا نهائي من المقاربات والتخصصات، وأنا متشائم، يقول البروفيسور المصري طارق حجي، لكنه يضيف بلغة الواثق من العلم «أن أسباب عجز العرب اليوم عن اللحاق بركب التقدم الإنساني وقطار المعاصرة يرجع لعدة عوامل أهمها الثقافة الدينية غير المتصالحة مع العصر والحياة، بالإضافة إلى تخلف نظم التعليم في المجتمعات العربية وبعدها عن روح نظم التعليم المعاصرة القائمة على قيم التقدم».

أحاسيس قوية بالانتماء إلى جيل جديد يحلم بمستقبل أفضل على المكان، لكن للشاعر السعودي عبدالوهاب موقف استثائي يتماهى مع صفاء ليل حريصا «يلزمنا في العالم العربي عمليات جراحية مستعجلة لإخراج العقل العربي من غيبوبته التي طالت كثيرا» يقولها مترافقة مع ضحكة طفولية يحاول كتمها بصعوبة بالغة. ويوافق وليد القادم من نفس المنعرجات، بابتسامة شاب خبر العمل الحقوقي على صغر سنه، وتعرض في أكثر من مرة لمضايقات كان آخرها توقيف لمدة أربع ساعات، حين عودته إلى بلده عبر البحرين عقب انتهاء أشغال الجامعة الصيفية ببيروت.

للمرة الثانية ينزل الحضور العراقي بجامعة منبر الحرية بثقل شعب صار متهما في السفارات العربية إلى أجل غير مسمى... أعداد العراقيين هي الأعلى بين المشاركين بيروت وجهاتنا الرحيمة حين تغلق أبواب المدن العربية في وجهنا، يقول صقر، بنبرة الناقم على أهل تنكروا للعراق الجريح «هنا في منبر الحرية على الأقل ننسى الضغائن» يقول لي سرا عراقيا ثانيا... أما خالد فلا يتوقف عن القول «نحن في الهم سواء»، قبل أن يغمرك هذا القادم من كوردستان بكل عبارات المحبة. اقتصادي ناشئ هو، لا يترك فرصة دون أن يعود إلى علاقة البيئة بالتنمية. صقر بعفويته الطفولية، مازن بطيبته الغالية، ليندا في ابتسامتها العصية وفي حزنها الدفين، والآخرون عنوان عراق يمضي إلى مصير مؤرق...


رهبة بيروت و «القات» وأشياء أخرى

تلتف عقارب الساعة بسرعة جنونية طاوية اليوم الأول والثاني من فعاليات الجامعة، وحضور لافت للأكاديمي الكويتي شفيق الغبرا، بجسمه الرياضي وملامحه المعبرة وهو يغوص في تلاوين سؤال بحجم الجرح وعنوانه: «لماذا لم ينجح العرب حتى الآن في الولوج في طريق الحداثة؟»

مآزق كثيرة عددها المشاركون، من غياب مفهوم المواطنة وصولا إلى استغلال الدين وما بينهما ذهنيات تربت على القناعات الدوغمائية. لا تنتهي حصص المحاضرات إلا لتبدأ، لكن هذه المرة بفضاءات حريصا المجاورة... من مقهى أنطونيوس إلى مطعم أبو جوروج... هناك تنطلق الألسنة من عقالها، وحكي متواصل عن القات و»التخزين» وشعب صنع ذات تاريخ حضارة سبأ، قبل أن تكتشف تلك «الغنمة» اللئيمة «القات» فتجتاح آفته الجميع من الشيخ وحتى الرضيع، وحتى القرارات المصيرية في البلد تتخذ في أحيان كثيرة تحت وقع الأحلام الوردية لجلسة قات رسمية، يقول جلال، القادم من الشمال اليمني، بابتسامة لا تخلو من سخرية مرة.

رهبة بيروت بزحمتها وضجيجها، ولياليها الساهرة، تقنع الجميع أنها مدينة صعبة المراس، سيارات تمضي بسرعة جنونية، والنادلات الأنيقات لا يترددن في استعراض مزايا مقاهي شارع الحمراء، أما علاء فمأخوذ بسحر بيروت، لا يكف أصبعه عن الضغط على زر مصورته، .يضغط كيفما اتفق والنتيجة أكثر من ألف صورة، صور لكل شيء من المباني الأثرية إلى أناقة البيروتيات ودلعهن الاستثنائي وأشياء أخرى.

عناوين صحف هذا الصباح اللبناني متشائمة، لا اليمين ولا اليسار، لا إسلام ولا مسيحية، لا 14 ولا 8، لا أميركا ولا شيوعية، وأخيرا لا رجل ولا امرأة، هكذا يستعرض أنسي الحاج في شريط هستيري على الصفحة الأخيرة من جريدة الأخبار، المقربة من حزب الله، الوضع اللبناني. لا أدري إن كان الوضع اللبناني يستحق هذا القدر من السوداوية، لكن القادمين إليه، على الأقل، عبر مطار الدار البيضاء حائرون ما بين جمال لبنان ومخاطر تحدق حوله... يقارنون بغير قليل من الأسى بين «استقرار في المغرب وهشاشة بلدي الجميل الذي لا ينتهي أبناؤه من تدميره ليل نهار» يقول محمد اللبناني المقيم في المغرب منذ أكثر من سبع سنوات.

خمس ساعات من الطيران إلى بيروت تنتظر فريق منبر الحرية، وأيام طوال أخرى من حياة ليلية بلا نوم ولا راحة، لكن صدمة ثلاث ساعات من الانتظار بمطار محمد الخامس عطلت الحواس على كراسي قاعات الانتظار استسلم نوح لغفوة المحارب، فيما إكرام تكومت في الجهة المقابلة استعدادا لليالٍ طويلة من السهر على راحة المشاركين.


حروب وفتن... جمال وقوة

وانطلقت البيونع 747 في اتجاه بيروت، لم أكن مقتنعا بأني سأشعر بالشيء ذاته اتجاه بلد الأرز، ومع ذلك جربت الكتابة في فندق بيت عنيا ليلى السودانية تقلب مفتاح غرفتها بين يديها، حركات متكررة لرجلها اليمنى، وعيون شاخصة إلى أمل ما، في يد مواطنة لبنانية مقيمة بالفندق «سأخون وطني»... تقلب كتاب الماغوط وتلتهم صفحاته، تذكرت منه صفحات قرأتها من زمان... يفكك الأكاذيب والأوهام... كتاب يمنحك فعلا ألف ضحكة وضحكة وإن أنزل مطارق كوابيسه على رأسك.

ذم خيانة الوطن في لبنان، قصة على كل لسان من سائق التاكسي إلى الزعيم السياسي، نسينا من الخائن ومن الشهيد، يقول سائق التاكسي، وسمير جعجع يستعرض قواته وسط زحمة بيروت، وصارت الزحمة أشد وأقوى على الطريق الرابط بين مطار رفيق الحريري وأعلى الجبل حيث سيدة لبنان... اليوم ذكرى شهداء القوات اللبنانية والتوتر وصل أعلى درجاته في انتظار قرار المحكمة الدولية... لا يهم إن كان القرار ظنيا.

عزة، ملاك، نبيلة، وملوك محقونات بدم وطني ساخن، يحبون لبنان، واستقلاله... تحتج ملاك على ادعاء الضعف... سنواجههم تقول ملاك بسحر لبناني يختزن إحساسا قويا بالانطلاق على نحالة جسمها. للبنان سحر يسمو فوق كل الألوان والطوائف والأحزاب والألوان... حروب وفتن... جمال وقوة، حب للحياة واستعداد للموت... لبنان بلد العجائب والغرائب... في الناس في السياسة وفي الطبيعة غرابة لا تقاوم...

اللبنانيون قلقون... الفرقاء السياسيون يدقون نذر الحرب... لكن أجراس كنائس حريصا تقرع بهدوء لا يبالي والأمل لم يترهل بعد، رغم بعض سحنات الناس المدكوكة بالغلاء وبتوالي انقطاع الكهرباء، لكن خلف وجه مارسيل وهي تستقبلني بمكتب جريدة الحياة نكهة طفولية وخلف ابتسامتها تنضج الحياة لتجعلك تفكر في كل عمرك أنت الحائر في المفاضلة بين خيرين أو بين شرين، بين السلام والحرب، بين بلدك ولبنان.


الأديان والمشاوي وكتاب الزوايا

هل تقع الحرب أم لا؟ لا يبالي «أيوب» الشيعي بهذا السؤال، ويضغط أكثر على دواسة سيارته. أما صديقنا اللبناني «حنا» الواقف على مد يد العون للجميع، فيغرق في ابتسامته المعهودة... وإكرام متخوفة وتتابع الأخبار اللبنانية باهتمام بالغ... خلف حجابها شلالات من حس التنظيم وفيها من صفات البلد أكثر من صفات الزائرة... مسحورة بجمال لبنان.

من أين للبنان بهذا البريق؟ الأديان والألوان، البهار والتبولة، المشاوي والجبنة، والمناقيش... وكتاب الزوايا اليومية في الجرائد اللبنانية يصبون النار على هشيم الطائفية، صراعات اللبنانيين ملح اليومي، يقول السائق أيوب وهو يحفر عميقا في تفاصيل ذاكرة عادت به إلى السبعينيات... يشير بصوت أجش إلى حيث انتصبت الحواجز ذات حرب أهلية بين بيروت الشرقية والغربية... نجا من الموت في أكثر من مرة... فصارت ذكرى الحرب عنوانا لرعب يداهمه باستمرار.

يشترك اللبنانيون في وصف قادتهم السياسيين بالمتلاعبين... يعممون التهمة على الجميع... لكن سرعان ما يتراجعون للانتصار للطائفية... والباحثة المصرية سنية البهات تتفرس مليا في «القوة والمعرفة والحرية» وفي ألف ليلة وليلة... وكتب أخرى انضافت إلى قائمة مقتنياتها... أمامي كتاب جديد لجمانة حداد بعنوان قتلت شهرزاد... في مقدمته تقول أتيل عدنان «لأول مرة كانت جريمة بهذا القدر من الفرح لا بل الأخلاقية» أما الروائي الشهير أمين معلوف فيواصل في «حدائق النور» رحلة البحث عن قصة الخير والشر... وفي الرف الآخر يشرئب كتابه المعنون بالهويات القاتلة... قاتلة هي الهويات فعلا في لبنان... وتصير أكثر تدميرا عندما تتكالب عليها أطماع إقليمية ودولية.

من الصعب أن تغادر لبنان دون أن ينتابك أسى صادم... أحدق في الوجوه، في ضوضاء المدينة، في فنجان قهوة بين شفتي لبنانية سمراء، في رجال أمن المطار وهم يفتشون هوياتنا... وطفل لم يتجاوز الست سنوات يرفض المرور أمامي باحترام شديد» أنت الأول يا عمو»... المشاهد كالمرايا تنعكس أمامي... يقبض حزام السلامة على صدري... أحس بضغط خفيف... وابتعدت الطائرة عن مطار رفيق الحريري الدولي لتعانق السحاب... وخلف زجاج نافذتي تماوجت زرقة البحر وأحلام بألا يعود لبيروت التتار.

العدد 3085 - الثلثاء 15 فبراير 2011م الموافق 12 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً