لم ألقَ من يَمُلُّ الحديث عن المَلَلْ. هكذا كان يُقال. وهكذا كنا في نَدْبِ أحوالنا السياسية في عالمنا العربي. جاءت أحداث تونس خلال شهر يناير/ كانون الثاني الماضي وتغيّرت زعامتها السياسية في بحر 26 يوماً. كان الأمر صاعقاً للجميع بمن فيهم التونسيين أنفسهم. ثم جاءت أحداث مصر قبل أيام، فتغيّرت أيضاً في غضون 18 يوماً وكان الأمر مماثلاً كذلك. هكذا بدا لنا عالمنا العربي وكيف تبدَّل خلال شهرين فقط.
وأيضاً من الصُّدَف الغريبة في أحداث مصر أن يتزامن رحيل الرئيس حُسني مبارك وانتصار الثورة المصرية مع ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران في 11 فبراير/ شباط. وأيضاً مصادفته مع ذكرى انهيار اتحاد كالمار الشهير بين الممالك الاسكندنافية الثلاث الدنمارك، النرويج والسويد بعد نزاعٍ مرير مع الملكة مارغريت الأولى. وفي مثله أيضاً كان إنشاء أول وزارة للمعارف في مصر والعالم العربي قبل 174 عاماً! وفي مثله أيضاً صَدَر قرار تأميم البنك الأهلي المصري وبنك مصر، وفي مثله أيضاً كانت الغارة الصهيونية العدوانية على مصنع أبوزعبل والذي استشهد فيها سبعون عاملاً مصرياً خلال حرب الاستنزاف.
في كلّ الأحوال فإن تلك ما هي إلاّ مقدمة للحديث. لكن ما يهمّني حقاً في مقال اليوم هو مناقشة «النقاش» الذي دار على هامش «الأزمة» المصرية. أصل النقاش كان حول القبول بأعمار الزعامات والحكام في عالمنا العربي. فكرة الرَّد وردّ الرَّد كانت أن ما يُقبَل على هذا الزعيم العربي يجب أن يُقبَل على غيره أيضاً بالسَّوَاء. ومقاسُ النَّقد ومداه يجب أن يكون واحداً بينهما مادام الاثنان يجتمعان على حالٍ سياسي واحد أو قريب منه. ومن أجل ذلك يجب أن تُحَيَّد عواطفنا ومواقفنا الشخصية أمام ضريبة «مقدَّسة» لقضيّة أقدس تتعلق بالحقوق المادية والمعنوية للشعوب، ولحريتها في اختيار إدارة نفسها ومع مَن تكون ولأي فكرة ومشروع تنتصر.
قلتُ حينها بأن تلك أمور جوهريّة جداً. وبما أنها كذلك فإنني سأذهب إلى أقصى اليمين وأبُوح بوجهة نظرٍ (وهي على شِقَّيْن) قد يختلف معي فيها وبشأنها الكثيرون والذي قد يعتبرونه ضد منطق الأشياء. أولاً... فما أعتقد به فعلاً هو أن مُدَد الرئاسات للحكَّام لا تعني لي شيئاً (طالت أم قصُرَت) مادامت غير مرتبطة لا بفساد ولا بطغيان. فالأصل في القبول بالنسبة لي هو الممارسة السياسية للحاكم وليس مُدَّة بقائه في السلطة. فمادام على الجادَّة، يُنصِف الناس، ويمنحهم الحريات وينتصر لقضاياهم وقضايا أمّته فلا يهمُّني إن حَكَمَني يوماً أو سنة أو حتى قرناً. عُمدة الموضوع هو أن يتحقق المزيد من الاستقرار ومثيله في التنمية والحرية لينتهي الأمر بقبول الناس له.
المستشار الألماني الأسبق هيلموت كول كان رئيساً للوزراء طيلة عشرة أعوام في راينلاند بالاتينات، ثم مستشاراً لألمانيا (الغربية/ الاتحادية) منذ العام 1982 وحتى العام 1998 وفي عهده كان للألمان ما كان من شَأوٍ سواء على مستوى تعزيز الحريات، أو على مستوى التنمية والتصنيع. والإمبراطور الياباني هيروهيتو حَكَمَ بلاده (ووفقاً لدستور ميجي السابق واسع الصلاحيات الممنوحة للإمبراطور والذي أقِرّ في العام 1889 إلى ما بعد الحرب) منذ العام 1926 حتى العام 1989 وفي حقبته شهِدت اليابان (باستثناء سنوات الحرب الكونية الثانية) أهم طفرة سياسية واقتصادية زاحمت بها الدول الغربية والولايات المتحدة لاحقاً.
صديقٌ صدُوقٌ أثِقُ بقدرته على قراءة الأحداث قال لي بأن القضية الأهَم بالنسبة له هي قيمة التداول في السلطة بين هذا الحزب وذاك. يُضيف هذا الصديق بأن جورج دبليو بوش دَمَّر العالَم بقراراته الجنونية في أفغانستان والعراق والحرب على الإرهاب، لكنه وفي النهاية حَكَمَ الولايات المتحدة الأميركية لثمانية أعوام فقط (دورتين رئاسيَّتين) ثم رحل وجاء غيره. نعم... أقول: هذا جيّد من حيث المبدأ، لكن الفكرة التي أنا بصددها بالتحديد هي ليست بهذا التجرُّد، وإنما هي بتلازم المُدَد في الحُكم مع جَنْبَي المعادلة: فساد/ طغيان أم شفافية/ عدالة.
بالتأكيد ستكون مُشكلة إن استغرق المساران طولاً وعرضاً مع بعضهما البعض. بمعنى الحُكم بسنوات لا تنتهي وبفساد وطغيان لا ينتهي أيضاً وهنا تكمُن المشكلة. فحين يحكم زعيم عربي بلاده لمدة 25 عاماً على سبيل المثال والافتراض، ثم تظهر ثروته على أنها تتجاوز الـ 40 مليار دولار في ظل وجود أوضاع اقتصادية صعبة لدى شعبه وناسه تُصبح المعادلة هنا مُختلَّة ما بين استغراق في الحكم واستغراق في الفساد بالسَّواء.
لأن ذلك يعني أن ذلك الزعيم كان يتقاضى راتباً يومياً طيلة خمس وعشرين سنة من حُكمِه يزيد على الـ 4 ملايين و383 ألف دولار، وراتباً شهرياً يزيد على 131 مليون و490 ألف دولار، وما يعني أيضاً أنه يستحوذ كل شهر على رواتب 300 ألف مواطن من شعبه يصل الراتب الشهري لكل واحد منهم إلى 438 دولار. هذا الاستغراق في المسارين هو المشكلة. وهو مستوى حُكمٍ مهزوز لا يعنينا لا من بعيد ولا من قريب في المقاربة التي نحن بصددها.
لا أدري قد اُتَّهَم بالإفراط في اليمينية لكنني فعلاً بتُّ مقتنعاً بأن زعيماً عادلاً تنموياً بلا فساد ولا طغيان يحكمني ما شاء من السنين أرحم لي من زعيم طاغٍ وسارق يحكمني ليوم أو بعض يوم ثم يرحل. ولا أعلم أيضاً فقد أكون مُوغلاً في الخطأ لكنني ومنذ التاسع من أبريل/ نيسان 2003 يوم سقوط بغداد صِرت أخشى التغيير إن أتبعه دعمٌ من الخارج، وصرت أتشبث بما أنا عليه، دافعاً بأن يتحقق الحدَّ المطلوب والمعقول من الحكم العادل وينتهي الأمر بدل التغيير «المُتأمرِك» والمشبوه المُفضي إلى المجهول وإلى أحضان غير دافئة. (وللحديث صلة).
ومن الصُّدَف الغريبة في كلّ هذه الأحداث العاصفة أن الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي (وكما أشرت سابقاً) فرَّ من بلاده في 14 يناير/ كانون الثاني 2011 بعد تصاعد المظاهرات المناوئة له، وفرَّ الشاه محمد رضا بهلوي من إيران في 16 يناير 1979 بعد تزايد حركة الاحتجاجات ضده (أي أن الفارق بينهما يومان فقط). وهو ذات اليوم الذي تنازل فيه عن العرش ملك أفغانستان أمان الله خان قبل 82 عاماً.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3084 - الإثنين 14 فبراير 2011م الموافق 11 ربيع الاول 1432هـ