أساء الكيان الصهيوني كثيرا لقداسة البابا بنديكتوس السادس عشر خلال زيارته الأخيرة للأراضي المحتلّة. مُنظّمو الزيارة في تل أبيب جعلوا الحبر الأعظم وأهم زعيم مسيحي يُلاكُ اسمه في رَدَهات الإعلام الصهيوني، حتى اضطر المتحدث باسم الفاتيكان فريدريكو لومباردي لأن يأخذ موقفا مما جرى.
مراسم الخارجية والجيش والمعبد اليهودي الكبير في فلسطين جعلوا في أولى أولويات الزيارة تحقيق مكاسب سياسية. فاضطروا البابا لأن يتجشّم عناء ويزور عائلة الجندي الصهيوني الأسير جلعاد شاليط مواسيا.
هم بالتأكيد لم يُريدوا من قداسته أن يزور ويواسي عوائل أحد عشر ألف معتقل فلسطيني يقبعون في السّجون الصهيونية! حتى التّرميز في ذلك لم يكون مسموحا به. كان يمكن أن يزور عائلة الأسير الفلسطيني نائل صالح عبدالله البرغوثي كلفتة إنسانية.
نائل يقضي الآن عامه الثاني والثلاثين في السجن! نعم عامه الثاني والثلاثين. عندما اعتُقل في الرابع من أبريل/ نيسان من العام 1978 كان عُمره 20 عاما. اليوم يبلغ من العمر اثنين وخمسين عاما. بالتأكيد هو حالة من ضمن عشرات الأسرى ممن أمضوا أكثر من 20 عاما في الأسر.
جلعاد شاليط يقضي الآن عامه الثالث (إلاّ شهرا) في الأسر! اعتُقل هذا الجندي وهو في جوف دبابة غازِيَة عند كرم سالم. بعد عامٍ من أسره سرّب آسِروه شريطا يظهر فيه شاليط وهو يتحدث إلى أسرته، ويُطمئنهم على حاله. واليوم يرتجّ العالم الغربي لإطلاق سراحه.
في حال الأخير ظلمٌ مُحقّق. وفي حال الأول جزاءٌ نزيه! وهذا في حدّ ذاته خطفٌ لسلامة اللغة والمعنى ومنحى التفكير. فالأنظمة السياسية ونُظُمُ المصالح تقود سفسطة تجاه قضايا الشعوب. فترهن الحقوق بقبول الحيف. إنها مأساة إنسانية حقيقية.
بالتأكيد (مرة أخرى) فإن تل أبيب أساءت توظيف الزيارة البابوية للأراضي المحتلّة. وقد أساءت الأدب مع البابا نفسه عندما نالت منه عبر رئيس الكنيست ريوفن ريفلين والحاخام مئير لاو اللذين اتّهماه بالانضمام إلى الشبيبة النازية في صباه.
لو تعاطى الكيان الصهيوني مع الزيارة باحترام ولياقة وبديموقراطية لكان البابا قد أشار خلال لقاءاته هناك إلى سِجْن بنيامين وحوارة وسالم وعتصيون والمسكوبية وعسقلان التي تكتظ بالأسرى.
ولتحدث معهم عن سجن بتح تكفا وهداريم، والشارون وريمونيم، وتلموند ومجدو، وشطة، وجلبوع، وكفاريونا، والدامون والرملة نيتسان وأيالون ومجين ومراش ونفحة وريمون وهولي كيدار وإيشل والنقب وسجون المستوطنات.
وكان سيُذكّر (ولو بدبلوماسية بابوية) بـ 850 سجينا إداريا، و350 من الأطفال السُجناء، و300 أسير مقدسي (17 أسيرا منهم في الأسر منذ 16 عاما) و151 أسيراَ من فلسطينيي الخط الأزرق و900 حالة مرضية بين الأسرى، 500 حالة تتطلّب علاجا فوريا، و32 أسيرا يقيمون إقامة دائمة في مستشفى الرملة.
ولقال بأن بعضهم يعاني من أمراض خطيرة كالقلب والروماتيزيوم والسرطان وضعف النظر، والكلى. وهناك اثنان من الأسرى فقدا بصرهما بشكل كُلّي، واثنان آخران مصابان بشلل نصفي.
وكان يمكن للبابا أن يسأل عن 67 أسيرا قضوا أكثر من 20 عاما في السجن. وعن أربعين نائبا ووزيرا من حكومة حماس مازالوا معتقلين. وكان يُمكن للراهبات المُرافقات لقداسة البابا أن يسألن عن 128 فتاة أسيرات بسجن تلموند، خمسا منهن من عرب الداخل.
وكان يُمكن أن يسأل عن تعويضات شهداء السجون. فـ 177 أسيرا استشهدوا أثناء الأسر، 71 أسيرا منهم استشهدوا بسبب القتل العَمد أثناء الحجز، و69 أسيرا منهم استشهدوا بسبب التعذيب، و36 منهم بسبب عدم الرعاية الطبيّة اللازمة.
هذه قضايا قد تُسفّه الحديث عن مفاوضات. وتُميت أيّة دعوة للتعايش بسلام. فما يقوم به الكيان الصهيوني لا يُؤدي إلاّ إلى إنتاج نفور متزايد من مسمّى السلام، وغرائز متثوّرة نحو الانتقام والقصاص. عندها سيعجز أيُّ سلام على دفن أحقاد ستين عاما.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2444 - الجمعة 15 مايو 2009م الموافق 20 جمادى الأولى 1430هـ