ينشط الكثيرون في المواقع العربية الرسمية لتجميل صورة الحكومة الصهيونية اليمينية، عبر استقبال رمزها الأول الذي لم يدع مجالا للشك في أنه لن يقدّم إلى العرب حتى فُتات حقوقهم، حيث أعلن عن رفضه الانسحاب من الجولان، وتحدث بكل صراحة عن رفضه مبدأ الدولة الفلسطينية، ورَبَطَ ما أسماه السلام بالأمن والازدهار، وكأنه يقول للعرب: أعطونا السلام وتعاونوا معنا في مجال الأمن والاستخبارات ضد الأحرار في بلادكم وفي فلسطين، تحصلوا على الازدهار تحت حراب الذلّ والاحتلال.
ومع ذلك، فرئيس حكومة العدوّ، يجد هناك - في المواقع العربية الرسمية - من يتعاون معه، ويفتح له ذراعيه، ويستقبله ويمهّد له السبل للدخول إلى المواقع العربية الأخرى، ويستمع إلى كلماته في وجوب المساعدة لمحاربة من يسمّيهم العدو «الإرهابيين»، ولا ندري إذا كان الواقع العربي الرسمي مهيّأ للقفز فوق الاعتبارات الشعبية والدخول في جبهة موحّدة مع «إسرائيل» ضد إيران كما اقترح العدوّ، بعدما زحفت ثقافة الهزيمة والاستسلام إلى نفوس هؤلاء إلى المستوى الذي باتوا فيه يفكرون في التنسيق مع الكيان الغاصب، وينظرون إلى إيران كعقدة ينبغي التخلّص منها وحصارها بعدما زادت من إحراجهم في تبنّيها القضايا العربية والإسلامية، وعلى رأسها قضية فلسطين التي يسعون للتحرر منها وإراحة عروشهم ومواقعهم.
إنّ الحديث الذي يدور في هذه الأيام في كواليس السياسة العربية الرسمية، هو في كيف يقترب العرب من «نتنياهو» مع أنه لم يفسح في المجال لهم حتى لحفظ ماء وجوههم، وكيف تتخلّى الأنظمة العربية الرسمية عن مسألة حقّ العودة أو تجعلها على رفّ المبادرة العربية، وكيف يمكن مجاراة العدو فيما يطرحه حول القدس ليرتفع العلم الفلسطيني في مكانٍ ما منها، وإن بقيت تحت الاحتلال، ليُصار بعدها إلى الحديث عن تقدّم عملية السلام على جثة القضية الفلسطينية التي يُراد لنعشها أن يُرفع على الأكفّ العربية وحتى الإسلامية، لتقديمه إلى الحكومة اليمينية، لتعلن بدورها عن وفاة المأسوف على حياتها المسمّاة: فلسطين، وبالتالي الدولة الفلسطينية.
إنّنا نحذر من أنّ الخطة التي بدأ العمل بها، تقضي بتوسيع دائرة التعاون الأمني مع العدو داخل فلسطين المحتلة وخارجها، تحت عنوان تفعيل أجهزة الأمن الفلسطينية الرسمية تارة، والتصدي لمحاولات زعزعة الأمن والاستقرار أخرى، على أساس الاستجابة لمتطلّبات العدو الأمنية، وإن اقتضى ذلك استباحة الأمن العربي والإسلامي بكامله لحسابه، كما أن الخطة تقضي بتوسيع دائرة الاعتراف بـ «إسرائيل» لتشمل العالم الإسلامي كله، لأنّ المطلوب أميركيا وإسرائيليا، وأكاد أقول عربيا، هو تطويق الفلسطينيين بالمسلمين بدلا من الاستعانة بكلِّ الطاقات العربية والإسلامية لاسترجاع الحقوق الإسلامية والعربية المستباحة في فلسطين.
إننا نحذّر من الاستجابة لهذه الخطَّة الجهنَّمية الخطيرة التي بدأت ملامحها بالبروز، حيث يُراد الاحتفال بالذكرى الواحدة والستين لاغتصاب فلسطين، غربيا، وإسرائيليا، وحتى عربيا، في ظل البرقيات التي بدأت تصل إلى مسئولي العدو للتهنئة بما يسمّى «الاستقلال»، وفي ظل الرسائل السياسية الخطيرة التي يحملها حتى الموفدون الدينيون...
وفي هذه الأجواء، يبرز الحرص الشديد على استغلال زيارة البابا وتوظيفها في نطاق الاحتفالية العالمية بهذا الكيان الغاصب، الذي يُراد للعرب والمسلمين أن يشاركوا فيها تحت عنوان: «مصالحة اليهود ومصافحة العرب والمسلمين»... لأن المطلوب هو أن يتصالح الجميع مع اليهود المحتلين بشروطهم، وأن يخضع العرب للجوانب الشكلية في المصافحة التي تعني - أولا وآخرا - تخلّيهم عن حقوقهم، وبالتالي عن عزتهم وكرامتهم وحضورهم بين الأمم.
ونحن - في المناسبة - نحيّي المسلمين والمسيحيين في فلسطين المحتلة، الذين نبّهوا البابا إلى خطورة ما يذهب إليه، وإلى ضرورة وقوفه مع الشعب الفلسطيني المظلوم والمضطهَد، والذي يمثل النموذج الأبرز في البشرية الذي ينبغي لرسالات السماء أن تجعله في رأس اهتماماتها والتزاماتها، لأنه نموذج المظلومية التي انطلقت النبوّات للدفاع عنها ولحمايتها تحت عنوان تطبيق العدل ومحاربة الظلم الذي يمثل الاحتلال أفظع أنواعه وأبشعها.
ونحن نتساءل كما تساءل الكثيرون: لماذا لم يقم البابا بزيارة غزة التي نعتقد أن السيد المسيح (ع) لو كان موجودا لزارها واطّلع من أهلها المظلومين والمضطهدين، والذين تعرضوا لأبشع عمليات القتل والإبادة، على أوضاعهم، وانطلق في أجواء الدفاع عنهم واحتضان أيتامهم ومساكينهم، لأنهم يمثلون النموذج الحيّ لرسالته السامية في العالم؟
إنّنا نحذَّر من أن تتحوَّل المواقع الدينية الرسمية إلى ما يشبه المظلة التي تحمي المجرمين وسرّاق الأوطان، لأن ذلك سيمهّد السبيل لمحارق جماعية لا تصيب شعبا بعينه أو أمة لوحدها، بل تصيب البشرية كلها، وتسقط السلام العالمي الذي بات أنشودة سياسية ودينية في العصر الذي يتعرّض فيه الإنسان لأبشع أنواع الظلم والقتل والاضطهاد، ويُراد للرموز الدينية أن تتحرك في نطاق الديكور الذي يوزِّع دفء الكلمات على المضطهدين، فيما تأكل نيران الحروب واقعهم ومستقبلهم.
وليس بعيدا من ذلك، نطلُّ على حرب أميركا على المستضعفين في أفغانستان وباكستان، والتي يتعرَّض فيها المدنيون هناك لما يشبه حرب الإبادة، في قصف الطيران الأميركي الوحشي لبيوت الطين التي يُطمر تحتها الفقراء تحت عناوين مكافحة الإرهاب، وقد رفض الأميركيون طلب الرئيس الأفغاني وقف هذا القصف بحجَّة «أننا لا نستطيع أن نحارب وأيدينا مربوطة خلف ظهورنا»، كما قال مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي... وكأن المسألة هي أن تمنح هذه الضربات الجيش الأميركي تفوقا نوعيا على المدنيين العزّل، لتستعيد أميركا المهزومة هيبتها على حساب فقراء العالم ومسحوقيه...
ونصل إلى لبنان الغارق في الهموم الانتخابية حتى أذنيه، لنلاحظ أن تصاعد الحدّة في الخطاب الانتخابي لا يحجب الصورة عن المخاطر الكبرى التي برزت من خلال الاختراق الإسرائيلي للبنية الاجتماعية السياسية اللبنانية، في حجم الهجمة التجسسية التي لم توفِّر الجسم الرسمي في الدولة أو النسيج الشعبي الداخلي.
لقد أظهرت أرقام الشبكات الاستخبارية المتهاوية إلى الآن، أن حزب العملاء ليس حزبا عاديا في لبنان، فهو حزب «وحدوي» يضم أفرادا من كل الطوائف اللبنانية، ولا يخضع إلا لمبدأ العمالة ومفاهيم التجسسية التي لا تقيم وزنا لمصطلحات الحرية والاستقلال، ولا تأخذها الملامة عند سماع مفردات الخيانة العظمى، أو الجريمة الكبرى، لأن لهؤلاء حساباتهم التي لا تنفصل عن حسابات العدو، وإن ذهب الخطاب الداخلي بعيدا في السجالات التي أطلقت الدخان السياسي الكثيف الذي جعل الغشاوة السياسية الظرفية تمنع الكثيرين من رصد الخطر الداهم المتمثل بالعدو وشبكاته العنكبوتية الخطيرة.
إننا نرى في هذه الهجمة الاستخبارية الصهيونية على لبنان ما يشبه الحرب المفتوحة، ونرى في الدعوة الأميركية إلى نزع سلاح المقاومة تنسيقا مسبقا مع العدو للاستفراد بلبنان وجعله فريسة للاختراق الأمني ثم العسكري، وصولا إلى استباحته بالكامل. ولذلك فإننا ندعو المقاومة والجيش وأجهزة الدولة، إلى التنبّه لهذه الهجمة الماكرة، والعمل على تفكيكها سياسيا وأمنيا. وندعو المجاهدين إلى التزام أعلى درجات الجهوزية، والسعي لاختراق ساحة العدو الداخلية، وكشف عناصر ضعفه بالطريقة نفسها التي يحاول من خلالها اختراق الداخل اللبناني، لأن الحفاظ على الأمن اللبناني الداخلي هو أولوية كبرى ينبغي للجميع أن يكرّس اهتماماته السياسية وغير السياسية لحسابها، قبل أن تصبح المحطات السياسية اللبنانية، من انتخابية وغيرها، مناسبات ملائمة يستغلّها العدو لتسديد ضرباته الإرهابية إلى لبنان والمنطقة.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2444 - الجمعة 15 مايو 2009م الموافق 20 جمادى الأولى 1430هـ