شهدت ولاتزال تشهد المنطقتان العربية والأميركية اللاتينية احتلالات وحروب غزو خارجية وحروبا أهلية ونزاعات دموية مسلحة على امتداد عقد. لكن الفرق هو أن أميركا اللاتينية في طريقها إلى التعافي، حيث خمدت الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة ما عدى بيرو، وانتقلت غالبية بلدان أميركا اللاتينية من الحكم الدكتاتوري والاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي وبعضها بنهج العدالة الاجتماعية، فيما المنطقة العربية تغرق أكثر في رمال الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة والانقسامات العميقة وفيما تتعثر فيها عملية العدالة الانتقالية والانتقال إلى الديمقراطية.
وهنا سنستعرض أوضاع الدول العربية الأكثر إلحاحا فيما يتعلق بحالة النزاعات والاضطرابات وتعثر التحول الديمقراطي، وبعدها نستعرض الخطوط العامة لتجربة أميركا اللاتينية وسر نجاحها فيما أخفقنا فيه.
تتفاوت أوضاع الدول العربية من حيث درجة الحرب والنزاع المسلح أو الصراعات الداخلية العنيفة والانقسامات العميقة ويمكننا تصنيفها إلى أربع فئات:
أولا: البلدان التي شهدت حروبا أو غزوات خارجية: وتقف في المقدمة فلسطين والتي أحتل معظمها من قبل الصهاينة في 1948 أي منذ 16 عاما حيث أقيمت دولة «إسرائيل» على حطام فلسطين، والتي استكملت احتلال باقي فلسطين في حرب يونيو 1967، ويتعرض الشعب الفلسطيني المحتل إلى حروب إسرائيلية منقطعة إضافة إلى الاقتلاع والتهجير والاحتلال والقمع الصهيوني الاسرائيلي.
إذا فلسطين وعلى رغم وجود سلطة وطنية مؤقتة ولديها مؤسسات شبيهة بمؤسسات دولة، إلا أنها مسلوبة الإرادة. لكن المحزن هو أن السلطة ومنظمات المقاومة المسلحة تدخل في حالات احتراب ونزاعات مسلحة وأخطرها احتراب السلطة وحماس والذي انتهى إلى إقامة سلطتين، سلطة فتح في الضفة وسلطة حماس في غزة. إذا فمعاناة الشعب الفلسطيني مزدوجة من قبل الاحتلال الاسرائيلي والسلطتين الفلسطينيتين وتقارير المنظمات الحقوقية الفلسطينية زاخرة بسجل حافل من الانتهاكات.
أما البلدان التي تعرضت للحروب والاحتلالات العدوانية الإسرائيلية فتشمل مصر وسورية والأردن ولبنان. حيث لاتزال الجولان السورية محتلة والقرى اللبنانية السبع محتلة منذ 1948 وقرية الغجر ومزارع شبعا محتلة. ويبقى احتمال شن «إسرائيل» حربا جديدة ضد لبنان والذي تعرض لأكثر من حرب إسرائيلية قائما وقد خلفت هذه الحروب والاحتلالات أثارا عميقة لم تتم معالجتها حتى الآن وفي مقدمتها حقوق الشعب المحتل، والحرب الأهلية في لبنان، وحرب المقاومة والسلطة الأردنية، وعسكر المجتمع، والاستبداد بحجة التحرير والاستنفار لمواجهة العدو وعلى رغم أن كلا من مصر والأردن أبرمتا اتفاقيات صلح مع «إسرائيل»، فإن ذلك لم يؤدِ إلى إنصاف الضحايا، أو التقدم على طريق الانتقال للديمقراطية أما البلد الآخر فهو العراق الذي تعرض للحرب والغزو الأميركي في حرب الخليج الثانية 1990 وحرب الخليج الثالثة في 2003 حيث جرى احتلاله من قبل القوات الأميركية وحلفائها منذ ذلك الحين وبذلك دخل العراق فصلا داميا جديدا يضاف إلى الفصل المديد لحكم الدكتاتورية. وجر العراق إلى حرب هي أقرب إلى الحرب الأهلية وفي أحسن الاحوال صراع مسلح عنيف.
ثانيا: البلدان التي شهدت حروبا أهلية: تسبب الاحتلال الإسرائيلي في لبنان ووجود المقاومة الفلسطينية المقاومة لهذا الاحتلال اندلاع حرب أهلية في 1975 استمرت حتى 1980، التي توقفت إثر اتفاق الطائف، لكن التوترات استمرت منقطعة ومعها استمرت الاعتداءات الإسرائيلية على رغم الانسحاب الإسرائيلي في يونيو/ حزيران 2000، وآخرها الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في يونيو 2006، ويستمر الخلاف اللبناني الداخلي بشأن سلاح ودور حزب الله والعلاقات مع سورية ومع «إسرائيل»، منذرا بتجدد الحرب الأهلية.
أما العراق، فقد تسبب الاحتلال الأميركي والإرث الثقيل للحكم الدكتاتوري في احتلاط عمليات المقاومة بالتصفيات الطائفية، وتصاعد الصراع المذهبي السياسي بعد تدمير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء ليقترب من الحرب الأهلية حيث يختلط فيها الصراع المذهبي (سني/ شيعي) والقومي (عرب/ أكراد/ تركمان) والسياسي بين مؤيدي النظام السابق والنظام القائم. وعلى رغم تكرار نفي تصنيف الحرب الأهلية لما يجري في العراق، فإنه نزاع مسلح بدرجة مرتفعة.
أما في السودان وعلى الرغم من توقف الحرب الأهلية المديدة في الجنوب، فإن السلم لم يستتب في الجنوب والذي يشهد عمليات عسكرية من حين إلى آخر لكن حربا أهلية جديدة اندلعت في دارفور، وتسبب ذلك وغيره في توترات سياسية وعدم استقرار.
ولقد شهدت الجزائر حربا أهلية دموية إثر إلغاء نتائج انتخابات 1985 والتي فاز فيها الإسلاميون، وعلى رغم تراجع الحرب الأهلية إلى عمليات مسلحة متفرقة، فإن السلم الأهلي لايزال بعيدا.
شهد اليمن حربا أهلية إثر ولادة الجمهورية في الشمال في سبتمبر/ أيلول 1962 فيما بين الجمهوريين والملكيين مع تدخلات خارجية، كما تبع حرب التحرير ولادة دولة الاستقلال في الجنوب اليمني، معارك وجولات قتال عنيفة بدءا بشركاء التحرير الجبهة القومية وجبهة التحرير تم فيما بين الأطراف المتصارعة للفئة الحاكمة في جولات دموية مريعة. وعلى رغم التفاؤل في أن تضع دولة الوحدة التي أقيمت في مايو/ أيار 1990 حدا للحروب والنزاعات المسلحة التي ابتليت بها اليمن، فإن الآمال تبددت بتجديد القتال بين طرفي الوحدة، ليتحول إلى حرب أهلية شاملة في مارس/ آذار 1994، لتشكل العودة للاقتتال في اليمن من الشمال حيث الحرب ضد الحوثيين إلى الجنوب حيث القتال ضد التحالف الجنوبي المطالب بالانفصال، وما بينهما من نزاعات مسلحة فيما بين القبائل أو ما بين الدولة وبعض القبائل، وأضحت بعض المناطق مثل مأرب وصعده خارج السيطرة.
أما الصومال فقد ترتب على الحرب الأهلية التي تبعث انهيار نظام سيادي دكتاتوري، أن انهارت الدولة تماما وتفتت الصومال إلى كيانات متناحرة، وتجاوزت الحرب البر الصومالي لتنتج ظاهرة القرصنة البحرية في سابقة في العصر الحديث.
ثالثا: بلدان التوترات: يشهد عدد من البلدان العربية توترات عنيفة ناتجة عن انقلابات مسلحة أو محاولات انقلاب، أو عمليات قمع داخلية مسلحة، وتشمل هذه العراق وسورية وموريتانيا، أو عملية تغيير قسري في النظام السياسي كما في تونس ومصر. كما شهد المغرب توترات عنيفة أخطرها انتفاضة مارس 1965 ومحاولتي انقلاب ضد النظام، وعمليات مسلحة محدودة في جبال أطلس.
رابعا: بلدان مستقرة نسبيا: يمكن القول إن بعض دول مجلس التعاون الست قد شهدت توترات مسلحة أخطرها في عمان (الثورة المسلحة في الجبل الأخضر ثم عمان) والانتفاضات في البحرين في 1956 و1965، وحقبة التسعينيات من القرن الماضي، والسعودية (محاولات انقلاب أو تمردات أخطرها انتفاضة الحرم الملكي والشرقية في 1979)، لكن جرى احتواء التوترات السياسية في حقب مختلفة، لكن لم يتبع احتواء هذه التوترات تفعيل للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
باستثناء المملكة المغربية وعلى رغم قصورها، فإن أيا من الدول العربية التي شهدت حروبا أهلية، أو نزاعات مسلحة، أو انقسامات عميقة لم تفعّل الدول العربية عملية العدالة الانتقالية، ولم تنفذ عملية البحث عن الحقيقة والإنصاف والمصالحة، ولذا فليس هناك من أساس متين لمصالحة وطنية والتي تسهم في خلق المناخ الملائم والأرضية الصلبة للانتقال إلى الديمقراطية.
تضافرت للمغرب عدة عوامل لإنجاز عملية العدالة الانتقالية، أي الحقيقة والانصاف ولو جزئيا، وهي توافر الإدارة السياسية للملك الحسن الثاني في نهاية سنوات حكمه وتمسك بها وطوّرها خلفه الملك محمد السادس، واستجابت قوى المعارضة السياسية القومية للالتقاء معه في منتصف الطريق، وتعاون الطرفان لإنجاز عملية الانتقال، واتفاق الطرفين على مواجهة خطر خارجي تمثل في قضية الصحراء، ما ترتب عليه وفاق وطني، والضغط الذي مارسه الاتحاد الأوروبي الداعم الاقتصادي الأساسي للمغرب، وعوامل أخرى لكن عملية الانتقال إلى الديمقراطية والإصلاح السياسي يتعثر لعدة أسباب أهمها وجود مراكز قوى الديمقراطية في النظام وتبعثر المعارضة وغير ذلك أما معالجة البلدان العربية الأخرى فهي متفاوتة في معالجتها لتركه الماضي كما يلي:
- تبت الجزائر العفو المشروط عن المتمردين الأصوليين بشرط القاء السلاح والتوبة، ولكن من دون كشف كامل عن الحقيقة بما في ذلك دور الجيش والأمن في جرائم التصفيات الجسدية، ومن دون إنصاف كامل للضحايا، ومن دون إجراءات ضد من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية.
- لبنان: من ضمن اتفاق الطائف، صدور العفو العام لكل من تورط في الحرب الأهلية، حيث عاد قادة الحرب الأهلية ليقودوا عملية استئناف العمل السياسي وأركان الدول الجديدة القديمة. ولايزال الآلاف من المفقودين في لبنان أساسا مجهولي المصير، كما لم تكشف حقيقة الحرب الأهلية رسميا، ولم يجرِ تعويض الضحايا أو معاقبة المجرمين، وان اتفاق الطائف عبارة عن تسوية فوقية، دون التأسيس لنظام جديد ومرحلة جديدة، تحول من دون تكرار الحرب الأهلية ونزاعات الماضي.
- هناك عدد من البلدان العربية مثل الأردن وسورية وعمان والسعودية والبحرين شهدت انفراجات أمنية بعد مرحلة توترات وصراعات مع المعارضة، حيث جرى إصدار عفو عام كما في الأردن والبحرين أو عفو مشروط كما في سورية وعمان، وتكرر هذا العفو لاحقا. وفحوى ذلك عفو رأس النظام عن من يعتبرهم متمردين، أو معارضين. وقد ترافق ذلك في الأردن في 1989 أو في البحرين 2001 بتحول سياسي (إصلاح سياسي) بحيث جرى إطلاق عملية سياسية، تشارك فيها المعارضة وضمان بعض الحريات.
كما ترافق قيام الوحدة اليمنية العفو العام عن كل القوى التي تورطت في صراع عسكري أو عنيف ضد دولتي الشمال والجنوب المكونتان للوحدة، وحرى استيعاب إعداد كبيرة منهم في أجهزة الدول العسكرية والأمنية والمدنية ضمن تسوية متفق عليها بين نظامي الوحدة. وتبع ذلك تطور كبير للنظام السياسي ليقوم على التعددية، وإشاعة الحريات العامة، وإجراء الانتخابات العامة لكن التجربة الواعدة حيث تترافق الوحدة مع الديمقراطية انتكست بفعل عوامل كثيرة أهمها صراع طرفي الوحدة، وتراجع القوى الحاكمة الفاعلة في صنعاء عن المحتوى الديمقراطي والتقدمي للوحدة، والانفراد بالسلطة بعد الحرب الأهلية في 1994، ودخول الوحدة ذاتها في أزمة.
لكن وكما في تجربة لبنان، فإن التجربة اليمنية في ظل الوحدة، لم تذهب بعيدا للكشف عن الحقيقة، حقيقة الحروب الأهلية والتصفيات الواسعة وضحاياها، ولم تعوض الضحايا وأهاليهم، ولم يحدد المسئولون عن هذه الجرائم ولم يتم معاقبتهم. وما جرى هو نشر كل طرف لما يعتبره جرائم الطرف الآخر، أو تصفية الخصوم خارج إطار القانون.
إن من أهم أسباب فشل الدول العربية من الانتقال السلمي إلى الديمقراطية، وتعثر الإصلاح السياسي، والانتكاسات الأمنية والسياسية، عدم تفعيل العدالة الانتقالية وذلك بكشف الحقيقة وإنصاف الضحايا ومعاقبة المجرمين لأنه بذلك يتم توثيق الذاكرة الجماعية وخلق ثقافة جديدة، وردع أي كان من أن يرتكب مثل تلك الجرائم وتحصين المجتمع والدولة.
إن الدول العربية تدور في حلقة مفرغة فما أن يخرج بعضها من حرب أهلية إلا ويؤسس لحرب أهلية جديدة، وما أن يخرج من أزمة سياسية إلا ويدخل في أخرى. إنها أنظمة تدير الأزمات ولا تحلها، وتعيش على التناقضات لاستمرار سيطرتها لكن هذه التناقضات ضرورية لاستمرار سيطرتها فإن هذه التناقضات تنفجر بها وبالبلاد.
علينا في هذا الصدد أن نقتفي أثر بلدان أميركا اللاتينية التي يشكل تاريخها فصولا من الحرب الأهلية والعنف والنزاعات المسلحة والأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية، وها هو الكثير منها مثل تشيلي والأرجنتين والبرازيل وبوليفيا تتخطى ذلك، وتؤسس أنظمة ديمقراطية مستقرة ومزدهرة وتقيم فيما بينها منظومة اقتصادية وسياسية متعاونة بعد عقود من الصراعات والنزاعات الحدودية.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2444 - الجمعة 15 مايو 2009م الموافق 20 جمادى الأولى 1430هـ