إعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر عن احترام «المعاهدات الإقليمية والدولية» الموقعة في المرحلة السابقة وضع حداً لكل القراءات المتسرعة التي بالغت في الاستنتاجات. فالإعلان كشف عن التزام المرحلة الانتقالية بالخطوط العريضة لسياسة الدولة الخارجية وعدم امتلاك المجلس الأعلى صلاحيات التغيير تاركاً القرار للسلطة المنتخبة التي وعد برعايتها متعهداً تأمين انتقال سلمي (تعليق الدستور وحل البرلمان) نحو «سلطة مدنية منتخبة لبناء الدولة الديمقراطية الحرة».
ملامح المرحلة الانتقالية تبدو واضحة في خطوطها العامة في بيانات المجلس الأعلى وهي لا تتعدى حدود الاشراف على ضمان الاستقرار وترتيب خطوات الانتقال الهادئ خلال فترة قد تتراوح بين نصف سنة وسنة وربما أكثر. ويرجح ان تشهد مصر خلال هذه المرحلة حالات من الانكفاء السياسي في دور الدولة الإقليمي وذلك على عكس ما ذهبت إليه التصورات الذهنية التي بالغت في المراهنة على خروج مصر من العزلة والاندفاع بقوة إلى المحيط الجغرافي.
الانكفاء إلى الداخل هو الاحتمال المرجح وذلك لاعتبارات موضوعية وذاتية تتعلق بشعارات انتفاضة يناير وظروف المؤسسة العسكرية وعدم وجود بدائل جاهزة تعوض الفراغ الذي يمكن أن ينجم عن كل خطوة متسرعة وغير مدروسة. الانتفاضة مثلاً طرحت مطالب داخلية لها صلة برأس النظام وطبيعة السلطة وتحكم الحزب الواحد بمفاصل الدولة ولم تجازف في طرح شعارات لها علاقة بالقضايا القومية والتحررية وما يتفرع عنها من تفصيلات تكشف عن جوانب استراتيجية ودولية وإقليمية. فالانتفاضة كانت محلية الصنع وتحركت بناء على حاجات داخلية ومتطلبات شعبية واجتماعية واقتصادية وسياسية معادية لشريحة فاسدة صادرت حق الاعتراض وزيفت ارادة الناس وعطلت حرية الاختيار.
لم تطرح انتفاضة مصر، وقبلها تونس، شعارات ثورية وجذرية وانقلابية كما كان يحصل في الأربعينات والخمسينات والستينات وانما اكتفت بمطالب متواضعة وبسيطة ولكنها كبيرة ومهمة في بلاغتها لكونها تخاطب مصالح الملايين من البشر. وهذا النوع من التواضع ساهم في كسب الجماهير وتوحيد الشارع وتوسيع رقعة المعارضة وعزل السلطة ومحاصرتها واسقاطها بسرعة مذهلة.
تحميل انتفاضة مصر، وقبلها تونس، مهمات موسعة وضخمة جاءت عموماً من أطراف تراقب وتتابع لحظات التحول من خارج البيئة الثقافية التي أنتجت تلك التحركات المحلية. وبسبب البعد الجغرافي تأسست قراءات فضائية للوقائع والمجرى اليومي للتمدد الشعبي في تونس ومصر. لذلك يرجح ان تكون تلك الاستنتاجات السياسية (المشرقية والشرق الأوسطية) متسرعة وغير دقيقة في ملاحظاتها وأمنياتها ورغباتها. فالشعارات التي طرحتها انتفاضة مصر تبدو بعيدة عن أجواء الفضائيات التي أسست توقعات استراتيجية هي اقرب إلى التراجيديا السياسية منها إلى الواقع الذي أخذت ترتسم معالمه في إطار مرحلة انتقالية لا تمتلك تصورات نهائية ولا صلاحيات انقلابية.
هذا من جانب الانتفاضة وشعاراتها وطموحاتها الداخلية. اما من جانب السلطة المؤقتة فإن طبائع الأمور تؤشر إلى انتفاء مظاهر القطع النهائي مع المرحلة السابقة. في تونس مثلا تتجه الحكومة المؤقتة إلى ترتيب انتخابات تعطي فرصة للقوى الحزبية والنقابية والمدنية والأهلية للتنافس وبعدها تتحمل السلطة البديلة مسئولية الخيارات الجديدة وتبعاتها. كذلك تبدو صلاحيات المجلس الأعلى للقوات المسلحة محكومة بآليات قانونية لا تستطيع تجاوزها الا إذا قررت المؤسسة العسكرية الانقلاب على الدولة ومصادرة السلطة عنوة. وبما ان المجلس الأعلى لايزال ملتزماً حتى الآن بالاشراف على تأمين الانتقال السلمي فانه لا يستطيع خرق الدستور والإطاحة بالاتفاقات الموقعة في المرحلة السابقة.
طبيعة الفترة الانتقالية لا تحتمل التأويل ولا تعطي فرصة للمبالغة في الاستنتاجات السياسية القاطعة والحاسمة لأن كل خطوة خاطئة قد تؤدي إلى مضاعفات سلبية لا تستطيع مصر في وضعها الحالي تحمل تداعياتها سواء على مستوى علاقات المؤسسة العسكرية بالولايات المتحدة أو على مستوى توقيعات كامب ديفيد مع «إسرائيل». فهذه المهمات الاستراتيجية كبيرة وخطيرة وهي تتطلب فترة نقاهة زمنية لإعادة دراستها وكشف ثغراتها وملابساتها باشراف سلطة منتخبة من الشعب وليس من مجلس انتقالي تم تفويضه من قبل رئيس غاب عن المشهد.
الجيش المصري في ظروفه الراهنة لا يستطيع بسرعة وسهولة فك ارتباطه بمعاهدات والتزامات المرحلة السابقة التي تأسست خطواتها الأولى منذ العام 1974. فالمؤسسة ارتبطت منذ تلك الفترة باتفاقات عسكرية مع واشنطن أدت إلى تغيير العقيدة السياسية بهدوء كذلك أصبحت محكومة بتلبية حاجات القوات المسلحة من تدريب وتجهيز ومعدات وقطع غيار من شركات التصنيع الحربي الأميركية. كل التجهيزات تقريباً (طائرات، دبابات، مدفعية، صواريخ، ذخائر) يتم استيرادها من الولايات المتحدة ضمن صلاحيات مدروسة وبروتوكولات ثنائية لا يمكن خرقها من دون ضمانات بديلة.
كذلك اتفاقات كامب ديفيد ليست مجرد أوراق تم توقيعها في عهد رئاسة أنور السادات وإنما هي في مضمونها ذات طابع دولي ولا تستطيع سلطة مؤقتة محدودة الصلاحيات ومحددة مهماتها بتأمين الانتقال السلمي ان تتعدى السقف وتقفز فوق الحواجز وتبدأ بإلغاء المعاهدات الإقليمية والدولية.
المسألة ليست سهلة وهي في النهاية من مهمات السلطة المنتخبة من الشعب. فالهيئات المقبلة على مستوى المؤسسات التشريعية والرئاسية والتنفيذية هي صاحبة القرار وهي الجهة المولجة دستورياً بالاختيار بين قرار متابعة احترام الاتفاقات والمعاهدات السابقة وبين قرار إلغاء الالتزامات والتعهدات وبالتالي تحمل المسئولية بناء على تكليف الشعب واختياراته.
الموضوع في النهاية يعود إلى الشعب المصري وهو الطرف المؤهل في تحديد خيارات السلطة وتوجهات مؤسسات الدولة بما فيها القوات المسلحة ومدى استعدادها للمواجهة وتحمل تبعات كل قرار أو خطوة يتخذها الرئيس المنتخب المقبل بالتشاور مع مجلس الشعب الذي يفترض ان تتكون غالبيته من قوى الاعتراض الحزبية وجماهير ميدان التحرير.
الإسقاطات المتسرعة التي صدرت عن جهات تراقب الانتفاضة في مصر، وقبلها تونس، أسست قراءات سياسية عاطفية تحتاج فعلاً إلى اعادة دراسة وتدقيق للتأكد من صحة فرضياتها واستنتاجاتها. فالمجلس الأعلى لا يستطيع دستورياً في مرحلة انتقالية الا ان يعلن عن احترامه لتعهدات والتزامات الفترة السابقة تاركاً مسئولية القرار للسلطة الجديدة المنتخبة. والانتفاضة كذلك لم تطرح شعارات مغامرة أو إقليمية تتخطى حدود مصر أو تتجاوز الجغرافيا أو تخترق الفضاءات الدولية أو الشرق الأوسطية. الشعارات كانت بسيطة ومتواضعة وعفوية وذات طبيعة محلية تتصل بالعلاقات القهرية مع سلطة فاسدة ورئيس «نعم إلى الابد».
القوى المراقبة للحدث المصري من الجوار والمحيط عليها مراجعة الكثير من الحسابات والتوقعات واعطاء فرصة للانتفاضة حتى تخرج بتصورات دقيقة وحاسمة. ومثل هذا الأمر لا يمكن ان يصدر في مرحلة انتقالية تعاني فيها مصر من خضة سياسية مؤلمة تحتاج إلى تفكُّر للخروج من مضاعفاتها. مصر الآن تمر في فترة انكفاء على الذات وهي لا تستطيع أن تؤسس لمرحلة العودة إلى الموقع الإقليمي ولعب الدور القيادي في المنطقة العربية قبل ان تنتهي من تبعات المرحلة الانتقالية (التسلم والتسليم) التي يرجح ان تمتد بين نصف سنة وسنة كاملة... وربما أكثر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3083 - الأحد 13 فبراير 2011م الموافق 10 ربيع الاول 1432هـ
الحق دولة والباطل جولة
ونحن نقول هل من مزيد !!!