يعد البحث العلمي من أرقى النشاطات التي يمارسها العقل البشرى على الإطلاق، وذلك من أجل صناعة الحياة وتحقيق التطور والنهوض بالمجتمعات، وهو جهد منظم لا يمكن أن يتم في فراغ، بل ينبغي توفير الحرية والدعم والأموال وبناء المنشآت والمعامل والأدوات، وتأهيل الكوادر البشرية، وتوفير الحوافز المادية والمعنوية التي تجعل من الإنتاج الفكري عملاً يستحق المعاناة والجهد المتواصل، إذ بالإنتاج الفكري تكون الأمم أو لا تكون.
وتعد الحاجة إلى البحث العلمي اليوم أشد من أي وقت مضى، فالعالم في سباق للوصول إلى أكبر قدر ممكن من المعرفة الدقيقة المستمدة من العلوم التي تكفل الرفاهية للإنسان، وتضمن له التفوق على غيره، وإذا كانت الدول المتقدمة تولي اهتماماً كبيراً بالبحث العلمي فذلك يرجع إلى أنها أدركت أن عظمة الأمم تكمن في قدرة أبنائها العلمية والفكرية والسلوكية، لذلك جندت كل طاقاتها وقدراتها ونابغيها للنهوض بالبحث العلمي، واستقطبت العقول المتميزة من الدول الأخرى، وخصصت أموالاً باهظة من دخلها القومي لهذا المجال، وذلك من أجل فهم جديد للماضي يؤدي إلى انطلاقة جديدة للحاضر ورؤيا استشرافية للمستقبل.
والمدقق في واقع البحث العلمي في الوطن العربي يرى أن غالبية الوحدات البحثية تقع داخل الأقسام في الجامعات العربية في التخصصات المختلفة، أما باقي المؤسسات البحثية الأخرى مؤسسات أنشأتها الوزارات الفنية لمساعدتها في أعمالها المتخصصة وتطوير تقنياتها مثل أقسام البحوث في وزارة الزراعة والصناعة والصحة والنقل والمواصلات وغيرها.
ويعاني البحث العلمي في الوطن العربي من مجموعة من الصعوبات والمعوقات يأتي على رأسها توفير التمويل المالي اللازم، وعدم الاهتمام بالباحث العربي وتأمين مستلزمات العيش الكريم له، والافتقار إلى سياسات واضحة للبحث العلمي من حيث تحديد الأهداف والأولويات والمراكز البحثية اللازمة وتوفير الإمكانات المادية الضرورية، والحرية الأكاديمية له وضعف نسبة كبيرة من الباحثين على الابتكار، وغياب العلاقة بين مراكز البحث العلمي والوحدات الإنتاجية، وغياب دور القطاع الخاص في عملية البحث والتطوير والتمويل، فالبحث العلمي العربي يتصف بانخفاض حجم الإنفاق عليه دون الحد المقبول عالمياً من الدخل القومي الإجمالي وهذا يؤدي إلى ضعف توفير البنية التحتية اللازمة للبحث، وانخفاض الإنتاجية في الوطن العربي، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن مراكز البحوث والجامعات العربية تعاني من مشكلات عديدة من بينها انشغال عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالعمل الإضافي، وقلة عدد الباحثين المتخصصين، وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة، فالبحوث التي تجرى بين جدران تلك المراكز ما هي إلا بحوث فردية تهدف إلى الترقية، وهي أضعف من أن تحل مشكلات المجتمع وتعمل على تقدمه. وعليه يجب الاعتراف بأن الجامعات في عالمنا العربي ليست مراكز بحث، والقلة من الباحثين المبدعين تعمل في ظروف سيئة تغلب عليه الرتابة، ويغيب فيه الفكر والإبداع الخلاق، فلا يوجد من المحفزات ما يدفع المشتغلين بالبحث العلمي إلى التفاني والبذل، فنتائج أبحاثهم حبيسة الرفوف، ولايتم الالتفاف إلى مجهوداتهم وشحذ قدراتهم وتشجيعهم على بذل المزيد من التميز العلمي في تخصصاتهم، فالبحث العلمي المثمر بحاجة إلى قاعدة وأساس مثبت يتكئ عليه، حتى يستطيع تطبيق مقولاته النظرية وجعلها في خدمة قضايا التنمية.
إن ما ينجز من أبحاث في وطننا العربي إنما يكون على المستوى النظري، فهناك العشرات من الكليات ومراكز البحوث التي يصدر عنها في كل عام عشرات الأبحاث لكنها كغيرها من الأبحاث النظرية نائمة في أدراجها أو في منازل أصحابها تشكو غياب الاهتمام الحقيقي بالجهد والعلم، والدوافع الحقيقية والرغبة الصادقة في الاستفادة من الأبحاث العلمية وجهد علمائنا، الأمر الذي يدفع ببعضهم إلى الهجرة والاستقرار في الخارج حيث يتم الاستفادة من جهوده العلمية.
إن توفر العقلية العلمية وحدها غير كافٍ ما لم يقترن بقوة مالية تكفل له توفير متطلبات البحث من أجهزة ومختبرات وغيرها، وإذا نظرنا إلى واقع تمويل البحث العلمي في الوطن العربي نجد أن نسبة الإنفاق عليه إلى الدخل القومي تبلغ نحو 0,2 في المئة، وتقتصر على القطاع الحكومي فحسب، بينما يغيب تماماً دور القطاع الخاص في هذا المجال، إذ لاتزال نظرته إلى البحث العلمي قاصرة على إدراك أهميته الاقتصادية من جهة، ومن جهة أخرى عدم ممارسة القطاع الخاص لدوره الحقيقي في خدمة مجتمعه، أما في الدول المتقدمة فإن الأمر مختلف تماماً، حيث إنها تنفق ما معدله 2,5 في المئة من إجمالي دخلها القومي للبحث والتطوير، مع الإشارة إلى إن 80 في المئة من هذا الإنفاق يتم عن طريق القطاع الخاص.
إن تعطيل أفكارنا أساس للتخلف، والتخلف ليس عقيدة ثابتة لا تقبل التغيير، بل إنه حالة عابرة، إلا إنه قد استمر طويلاً في بلداننا العربية، لأننا لم نغيّر حتى اليوم من تفكيرنا نحو البحث العلمي وعطلنا ثمرة التفكير ودرب الإبداع والتميز، فمازالت بلداننا العربية تنظر إلى البحث العلمي من المشاريع الكمالية إن لم تكن من الهامشية، التي تخصص لها أقل نسب الموازنات، ولا يصرف في سبيلها إلا الجهد اليسير، وحتى يتسنى لجامعاتنا ومراكزنا البحثية القيام بمهمتها الريادية في التنمية والنهوض العلمي والثقافي بالمجتمع، علينا أن نتحول من مجتمعات مستهلكة لمنتجات الآخرين، إلى مصنع يحقق الاكتفاء الذاتي من خلال العقل الخلاق والنشاط المبدع والبحث العلمي الدؤوب والتي يكشف دائماً عن الجديد، ويعيش ديناميكية وحيوية دائمة تأنف السكون والتعطيل، ونخصص للبحث العلمي من دخلنا القومي أضعاف ما نخصصه لمؤسساتنا الأخرى، عنها يمكن أن نقول البحث العلمي في الوطن العربي بين أولوية الإنفاق وجدية التطبيق.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي حميد"العدد 3081 - الجمعة 11 فبراير 2011م الموافق 08 ربيع الاول 1432هـ