محمد البوعزيزي اسم سيسجله التاريخ، ليس التاريخ العربي فحسب ولكن تاريخ كل الأمم المستضعفة.
شابٌ في مستهل حياته علمنا درساً في الحرية والكرامة، درساً لن ننساه أبداً ولن تنساه الأجيال من بعدنا.
محمد (رحمه الله) أوقد نار البركان في نفس كل تونسي وفي نفس كل عربي ومسلم، ناراً انتشر ضياؤها حتى بلغنا نحن في بلاد المهجر.
السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه الانتفاضة الشعبية هو إذا ما كانت هذه التجربة قابلة للتكرار في البلاد العربية الأخرى. لكي نستطيع أن نجيب على هذا السؤال لابد لنا من أن نتعرف على المقومات والعوامل التي ساعدت على نجاح هذه الانتفاضة. نستطيع تلخيص هذه المقومات في خمس نقاط، وهي:
1- قلة اعتماد الشعب التونسي على الفتاوى والمرجعية الدينية في تصوراته وتصرفاته وحركاته. سيستغرب البعض من هذا التحليل، ولكن أقول بصراحة إن الفتاوى الدينية في بلاد المسلمين قاطبةً قد أصبحت موظفةً لخدمة الحاكم الظالم وزبانيته. وقد رسّخت كثير من هذه الفتاوى فكرة الاستسلام «للقدر»... وفي اعتقادي أن الشعوب يجب ألا تنخدع بكثرة الفضائيات الدينية وكثرة أصحاب العمائم فإنهم من جنود الديكتاتور يوظفهم في خدمته. بل أقول إن أول حصن منيع يستعمله الطاغية يتألف من هؤلاء «العلماء» (ولولا أني لا أريد إساءة الأدب لسبّقت الميم على اللام في وصفهم). استخدم هؤلاء مكانتهم فخدّروا وثبّطوا الشعوب عن المطالبة بحقوقهم وعن المطالبة بالتغيير. فإذا أردنا أن تتكرر التجربة التونسية في بلاد أخرى فلابدّ للشعب أن يحرر قلبه من هؤلاء الأصنام الذين أفسدوا الدنيا والدين معاً. الطاغية بن علي وصهره صخر الماطري انتبهوا لأهمية هذا السلاح الفتّاك في أواخر عهدهم عندما أنشأوا إذاعة الزيتونة ذات الطابع الديني، ولكنّ الله سلّم.
2 - الشعب هو من قاد هذه الانتفاضة ولم يكن لأحزاب المعارضة، المعترف بها والمحظورة منها، أي دور أساسي في إنجاحها. أحزاب المعارضة تفاجأت بما حدث كما تفاجأ الرئيس المخلوع تماماً. لذلك ترى أن كثيراً من هذه الأحزاب، وخاصةً تلك التي تعجّلت الدخول في اللعبة السياسية التي حاكها رؤوس النظام القديم، لايزال يشعر بالضعف ولم ينتبه حتى الآن إلى القوة التي برهن الشعب أنه يملكها. أيضاً لو أن أحد هذه الأحزاب قاد هذه الانتفاضة لكان سهلاً على النظام أن يوجه أصابع الاتهام إلى هذا الحزب كما فعل تماماً مع حزب النهضة في التسعينيات عندما اتهمهم بالتخطيط للاستيلاء على الحكم (كما عوّدنا حكّام العرب). هناك أيضاً البعد الاستراتيجي الذي تحسب له الأحزاب ألف حساب وهذا ما يعيقها عن القيام بأي مغامرة. على غرار ذلك كانت انتفاضة الشعب عفوية وبدون حسابات التي تعيق في كثير من الأحيان عن إحداث التغيير المطلوب. يضاف إلى هذا أن مطالب الشعب كانت بسيطة يفهمها الصغير والكبير كما يفهمها العامي والعالم، على خلاف المطالب السياسية التي تتصف في كثير من الأحيان بالتعقيد في صيغتها. وهذا درس يتوجب على أحزاب المعارضة في جميع الدول العربية أن تستوعبه. يجب على هذه الأحزاب أن تعيش مع اهتمامات الشعب وتطلعاته وأن تجعل مطالبها هي مطالب الشعب وأن تعتبر أن الشعب شريك في الحل، وأن تكون صياغة المطالب سهلة وأن تكون هذه المطالب مشتركة بين أفراد الشعب وبذلك يستطيع الشعب أن يتفاعل مع هذه الأحزاب بشكل إيجابي. للأسف أعود وأقول إن بعض الأحزاب التونسية تعجّلت في دخول اللعبة السياسية ولم تع ِهذا الدرس. وهذا يبدو واضحاً من بعض التعليقات التي سمعناها من بعض رؤسائهم، ومن بينهم أحد الذين برزوا في حكومة «الإنقاذ» المشكَّلة والذي استغرب استمرار الشعب في المظاهرات، متجاهلاً مطلب الشعب الصريح والرافض لإشراك رموز النظام القديم في الحكم.
3 - المستوى العلمي والثقافي للشباب التونسي يعتبر أرقى نوعاً ما من المستوى العلمي للشباب في البلاد العربية الأخرى. فقد سمح هذا العامل للشباب بمتابعة وقراءة وتحليل الأحداث من خلال الفيسبوك ويوتيوب وتويتر وذلك بثلاث لغات، العربية والإنجليزية والفرنسية، التي أصبح يتقنها أكثر الشباب المثقف. على سبيل المثال موقع www.nawaat.org يحتوي على مقالات وتحليلات باللغات الثلاثة. وقد ساعد هذا العامل على إيصال رسالة الشعب التونسي إلى العالم الخارجي عبر الصوت والصورة. وهذا يعود إلى سياسة التعليم التي بدأت في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. وللإنصاف نقول إن هذه السياسة استمرت في عهد الرئيس المخلوع بن علي.
4 - الاتصال والاحتكاك الدائم مع أوروبا والعالم الغربي بشكل عام، إذ يوجد على الأقل مليون تونسي يعيشون في الخارج وخاصةً في فرنسا وكثيرٌ منهم بقي على اتصال ببلدهم الأم، وكانوا يزورون أهليهم على الدوام. وقد سمح هذا العامل لهؤلاء المغتربين بمقارنة أحوال تونس والدول الغربية عن كثب. وكانوا يرون الفرق الشاسع بين هذين العالمين في مجالات شتى مثل حقوق الإنسان وحقوق التعبير والصحافة. وكانوا يتحدثون عن هذه الأشياء مع أقربائهم وأصدقائهم.وفي نفس الوقت كان بوليس بن علي يحكم قبضته على حرية الصحافة والتعبير التي صادرها النظام تدريجياً، ما جعل المواطن التونسي يتوق لمعنى الحرية وتتطلع نفسه إليها.
5 - بُعْد تونس الجغرافي والثقافي عن المشرق العربي جعل من القضية الفلسطينية قضية ثانوية مقارنةً بقضايا أخرى يعتبرها الشعب التونسي أهم على المدى القصير والفضاء الأقرب. ولا يخفى على أحد أن كثيراً من دول المشرق العربي تسخّر الصراع العربي الإسرائيلي لتثبيت دعائمها. فكلما أراد الشعب أن ينتفض، تذكّره وسائل الإعلام وجنود الحاكم من علماء وفقهاء بهذا الصراع ما يساعد في امتصاص الغضب الشعبي ضد هذه الحكومات الغاشمة.
الأشهر الستة المقبلة ستكون مصيرية ويحتاج الشعب ليقظة شديدة ووعي كبير حتى يحمي ثورته من الأخطاء المحدقة فهناك كثير ممن يريدون قطف الثمرة لحساباتهم الشخصية، وبقايا النظام السابق مازالوا، على ما يبدو، مؤثرين في هذه المرحلة.
إقرأ أيضا لـ "ماهر عرار"العدد 3080 - الخميس 10 فبراير 2011م الموافق 07 ربيع الاول 1432هـ