ناقشنا في الفصل السابق تفاصيل المجمع الكنسي للعام 676 م والذي عقد في جزيرة دارين وهناك عدة ملاحظات جديرة بالاهتمام سواء بتفاصيل الأحداث أو تفاصيل القوانين التي أقرها المجمع، من بين تلك الملاحظات أن الأسقف المتمرد إبراهيم المشماهيجي الذي سبب لأيشوعياب كثيراً من المتاعب لم يظهر للعيان في هذا الاجتماع. كذلك نلاحظ أن مسيحيي بيت قطرايا احتلوا مناصب إدارية في النظام الإسلامي لأن المجمع ذكر جباة الضرائب الذين كانوا مسيحيين وأنه لا يسمح لهم بأخذ ضريبة رؤوس أو أي ضريبة أخرى من الأسقف إضافة إلى ذلك. كذلك، يلاحظ أن اليهود كانوا لايزالون موجودين في شرق الجزيرة العربية لأن الجاثليق شكا أن مسيحيي بيت قطرايا كانوا يعودون إلى حانات يديرها اليهود ليشربوا الخمرة، ولم يكن شرب الخمرة مشكلة هنا، بل المشكلة أن الحانات المسيحية غير القليلة ظاهرياً، لم تتمتع بأي حماية خلافاً للحانات اليهودية.
وهناك إشارة إلى أن الجاثليق عندما تترك جزيرة دارين عائداً عاد ومعه قطعة مذبح عريضة لديره السابق منسوجة في بيت قطرايا ومن هنا نستطيع أن نقدر أن منسوجات بيت قطرايا كانت عالية الجودة بنوع خاص وأنها ذات شهرة في تلك الحقبة (بوتس 2003، ج2 ص 1041). وفي أعقاب مجمع 676 م، توقف اشتراك أساقفة بيت قطرايا في المجامع النسطورية وهناك نقص في المصادر التي تذكر مسيحي بيت قطرايا بصورة مباشرة، ولا يوجد إلا تلميحات لا يمكن من خلالها تحديد مستقبل المنطقة ما عدا تخمين مصيرها كما سنرى لاحقاً.
على الرغم أن المسيحية ظهرت في موقف دفاعي العام 676 م إلا أن محاضر جلسات المجمع الكنسي تشهد بزهو وأهمية هذه الطوائف النسطورية لبيت قطرايا حيث نرى رجال دين كثيرين موزعين وفق مراتب متسلسلة ومنتظمة بصورة جيدة، كذلك رهبان وراهبات مجتمعين في بيت أو دير في كل مدينة، وكنائس بحوزتها ممتلكات وإيرادات تطلبت وجود مديراً لها، وإنشاءات جديدة لكنائس وأديرة في المدن والقرى، ومحافل وتجمعات للأتباع المؤمنين من رجال ونساء تعقد في أيام الآحاد والأعياد، ويتكون هؤلاء الأتباع المؤمنين من الوجهاء والأعيان، والأثرياء ذوي الجنائز التفاخرية، وكذلك السواد من الناس كأصحاب الحانات (Beaucamp et Robin 1983). هذا الزخم الذي تمتعت به المسيحية في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي يتمثل أيضاً بوجود كتاب نسطوريين ينتمون إلى بيت قطرايا اشتهروا في العالم النسطوري، وقد أصدر الباحث Sebastian Brock المتخصص في الأدب السريالي سلسلة من الدراسات حول كتاب بيت قطرايا، من تلك الدراسات نستنتج أن من أشهر كتاب بيت قطرايا إسحاق النينوي أو إسحاق القطري (نسبة لبيت قطرايا) والذي ولد وعاش في شرق الجزيرة العربية ثم سافر لطلب العلم في نينوى ويقال أن الأسقف المتمرد إبراهيم المشماهيجي هو من طرده من بيت قطرايا العام 650 م إلا أن هناك رواية تؤكد أن الجاثليق جيوارجيس عندما حضر مجمع دارين العام 676 م أخذه معه (Brock 2000a and Brock 2000b). ومن الكتاب المشهورين أيضاً جبرائيل القطري (Brock 2003) وغيرهم من الكتاب التي ذكرهم بروك في بحثه عن الكتاب السرياليين من بيت قطرايا (Brock 2000a).
ما بعد القرن السابع الميلادي بدأ المجتمع المسيحي في بيت قطرايا بالتقلص ولا تتوفر إلا معلومات ضئيلة جداً عن المصير الذي آل إليه، وقد حدد بعض الباحثين فترة اندثار المجتمع المسيحي في بيت قطرايا في بداية القرن الثامن أو في نهاية القرن التاسع الميلادي (Beaucamp et Robin 1983)، وهناك معلومة واحدة اعتبرت دقيقة نسبياً حول وجود طائفة مسيحية على جزر البحرين تحديداً وهي معلومة تناقلتها العديد من المراجع النسطورية «(Beaucamp et Robin 1983) و(بوتس 2003، ج2 هامش ص 98)» وهو الحادث الذي جرى توازياً مع الأحداث التي جرت في العامين 1145و1146م، طبقاً للتقويم السلوقي (أي العامين 833-835م) فقد سردت الرواية الطريفة التالية:
«وقد شوهد في البحر، في الفترة نفسها، حول البحرين سمكة كبيرة طولها نحو ميل وقد خشى أهل البحرين من ركوب البحر، كذلك الذين يغوصون في البحر من أجل اللؤلؤ لم يعد يهبطون في البحر وبعد أن أحدثت هذه السمكة بحركتها إرباكاً شديداً في البحر لمدة ثلاثة شهور، قام أهل البلاد بأداء الصلوات وابتهلوا إلى الرب أن يخلصهم من هذا البلاء العظيم، فبعث الله سمكة صغيرة طولها نحو شبر واحد اندست في خياشيم تلك السمكة الكبيرة وأهلكتها».
وسواء كانت هذه الرواية الطريفة تنطبق على حدث معين أو أن هناك تلاعب بالتسميات الخاصة بالأرخبيل وجزره أي أن السمكة الكبيرة هي الجزيرة الكبرى وأن السمكة الصغيرة جزيرة المحرق، إلا أن الانطباع الذي يعطيه هذا النص هو أن السكان المعنيين هم السكان المسيحيين، وتنطبق جميع الأوصاف الواردة في هذه الرواية على أرخبيل البحرين، إلا أنه ليس بالإمكان مطابقتها به بصورة أكيدة (Beaucamp et Robin 1983).
وهناك دليل آخر على وجود طائفة مسيحية في شرق الجزيرة العربية في القرن التاسع الميلادي حيث ورد في بعض المصادر السريالية أن أبوسعيد الجنابي الذي سيطر على شرق الجزيرة العربية وجزر البحرين أيام الجاثاليق يووانس (893 م - 899 م) قد عامل مسيحيي البحرين واليمامة معاملة كريمة (بوتس 2003، ج2 هامش ص 984). وتخبرنا المصادر السريالية أيضاً بمولد مؤلف مسيحي يدعى أيوب (أو أهوب) في شرق الجزيرة العربية وعاش قرابة 990 م (بوتس 2003، ج2 هامش ص 984) و(Brock 2000a).
وهناك أيضاً إشارة تتعلق بوجود المسيحيين عند نهاية القرن التاسع الميلادي في اليمامة والبحرين، وهو موضوع يكتنفه الغموض، وقد وردت هذه الإشارة في التاريخ البطريركي لمدينة ماري، إضافة إلى ذلك فلربما يوجد لدينا أثر لكاتب نسطوري ينتمي إلى جزر البحرين في فترة زمنية غير مؤكدة، فقد جاء في فهرس يحوي أسماء الكتاب النصارى الذين كتبوا باللغة العربية وهو فهرس يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر الميلادي قائمة تتضمن أسماء الكتاب النساطرة ومن بينهم كاتب يدعى ثيدي الرهاوي الذي عاش «في جزيرة البكرين إحدى جزر البحر الأحمر» ويفهم من ذلك أنها جزيرة البحرين في الخليج العربي ولكن بقاء هيئة كنيسة نسطورية في بيت قطرايا في فترة متأخرة له أمر مشكوك فيه، فيما عدا نص يتعلق بالطقوس الدينية قد حفظ التراتيل الخاصة بمراسم تكريس أساقفة بيت قطرايا لخدمة الكنيسة، ويعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر الميلادي، فإن النصوص التي تم التحقق منها هي في الواقع مشكوك فيها تماماً (Beaucamp et Robin 1983)
في فصول سابقة ذكرنا أنه في العام 579 م كون المنوفيزيين لهم تنظيماً على غرار الكنيسة النسطورية يرأسه جاثاليق في إنطاكيا (أبونا 1985، ج1 ص175). وفي العام 595م أصبح أنستاسيوس الجاثليق وقد قام بإعادة تنظيم الكنيسة وقسمها إلى عشر أبرشيات حديثة (بوتس 2003، ج2 ص1031) هي: سنجا - معلثا وبانوهذرا - ارزون - مركا وكومل - بيث رمان وبوازيج - الدجلة وكرمى - الجزيرة (بين النهرين) والبحرين - فيروزشابور (الأنبار) - شهر زور - عانة والعرب التغلبيون (أبونا 1985، ج1 ص196). ويرجح دانيال بوتس، بحسب هذا الدليل، وجود أبرشية مونوفيزية في البحرين وأن هناك من يتبعها وأن هذا الأبرشية استمرت حتى القرن التاسع حيث ذكرت في رسالة كتبها أسقف تكريت «أبورعيته» للمسيحيين في البحرين (بوتس 2003، ج2 ص1031). بينما يرى كل من بيوكامب وروبن أنه لا وجود لمونوفيزيين في البحرين وأن البحرين المذكورة في الوثائق المونوفيزية تشير لمنطقة موجودة في بلاد ما بين النهرين على أطراف كرمة، واستناداً إلى هذه الحقيقة يستبعد أن تكون الطائفة المسيحية المعنية بخطاب أسقف تكريت مقيمة في الخليج العربي وذلك عندما أرسل هذا الأسقف خطاباً في بداية القرن التاسع الميلادي إلى المسيحيين الموجودين في البحرين، فمن الأصوب عدم وضع هذه الطائفة المسيحية في الخليج العربي بل وضعها بالأحرى في بلاد الرافدين (Beaucamp et Robin 1983).
باستثناء جزر البحرين فإن الكشوف الآثارية للبعثات المختلفة في شرق الجزيرة العربية أسفرت عن العديد من الآثار للطوائف النسطورية في هذه المنطقة، وقد قام كارتر بإعداد قائمة بهذه المواقع (Carter 2008) ويمكننا إيجاز تلك الآثار بصورة سريعة هنا:
في العام 1989م اكتشفت البعثة الفرنسية آثار لكنيسة في جزيرة فيلكا يعود تاريخ بنائها للقرن السادس الميلادي (Bernard and Salles 1991)، وقد عثر على كنيسة أخرى على جزيرة عكاز وقد نشر عنها بحث مفصل (Gachet 1998)
1 - الجبيل
تم العثور على أطلال لبقايا كنيسة يعتقد أنها تعود لما قبل القرن الخامس الميلادي، كانت بدون سقف، وتفاصيل المبنى مكون من صالة وبه عدة مداخل على ثلاث غرف، والمبنى مبني من الأحجار، وبعض الغرف حصل عليها بعض التغيرات حيث أقفلت بعض الأبواب، والمبنى حصل له إضافات وترميمات قديمة كما وجد عدد من الصلبان المنحوت في الجدران الداخلية وعلى البوابة الرئيسية، وقد وجد بالقرب منها ثلاثة شواهد لقبور مسيحية (Langfeldt 1994).
2 - موقع ثاج والحناة
تم العثور على بقايا كنيسة تعود لمقبل القرن الخامس الميلادي في موقع ثاج، وفي موقع الحناة القريب منه تم العثور على عدد من الصلبان المنقوشة على الصخور ويرجح أنه موقع لمقبرة مسيحية (Langfeldt 1994).
3 - جبل بري
تم العثور على صليبين صغيرين أحدهما مصنوع من البرونز والآخر مصنوع من صدف اللؤلؤ، ويعتقد أنها من بقايا النساطرة التي سكنت شرق الجزيرة (Potts 1994).
ثالثاً: جزر البحرين
لم تترك الطوائف المسيحية وراءها أي أثر يذكر في البحرين، كما لم يرد حتى الآن عن بقايا أثرية مسيحية مؤكدة، ويعرف المنقبون الأثريون الفرنسيون في البحرين، نصباً أثرية مودوعة في المتحف الوطني ومصنفة باعتبارها آثاراً «قبطية أو مسيحية» تم اكتشافها في البحرين في كل من قرية الشاخورة وقرية المقشع من المحافظة الشمالية وهي تتكون أساساً من حفر بارز لأشكال أجسام على لوحة شاهد وقد نشرت صور هذه النصب في بحث بيير لومبارد عن النصب والتماثيل الأثرية في البحرين (Lombard 1999) وقد ناقش كل من بيوكامب وروبين هذه التماثيل بصورة مختصرة جداً دون تأكيد هويتها المسيحية (Beaucamp et Robin 1983) وقد ناقش دانيل بوتس هذه النصب بصورة مفصلة إلا أن النتيجة التي توصل لها أن هذه النصب قد تكون مسيحية أو بارثية (Potts 2008).
وينقل بيوكامب وروبين في بحثهما رواية ذكرها داوود يوسف فولاذ من متحف البحرين مفادها أنه كانت توجد في البحرين آثار نصرانية شوهدت في الماضي ولكنها اندثرت الآن، فيذكر بأنه كان يوجد في قرية سماهيج مكان معين يقال له «الدير» وهو الآن خلاء فارغ، وقد شوهدت فيه حتى نحو 1900م أطلال مع صلبان محفورة في الصخر ومنذ ذلك الحين استخدمت هذه الأطلال كمحاجر ولا يبدو أن «الدير» المقصودة هنا هي القرية التي تحمل الاسم نفسه الآن والمجاورة لقرية سماهيج من جهة الغرب (Beaucamp et Robin 1983).
العدد 3079 - الأربعاء 09 فبراير 2011م الموافق 06 ربيع الاول 1432هـ