كل تعابير الوصف والتحليل والعبر لمسار ثورة تونس الشعبية تتطابق مع مسار ثورة مصر الشعبية: انتفاضة شعبية عفوية مبهرة ضدّ نظام طغيان وطغاة، ارتباك وعجز وتخبُّط مضحك من قبل النظام ومسانديه في بعض عواصم العرب والغرب والكيان الصهيوني، إصرار بطولي بالغ الوعي من قبل جماهير الثورة على مطالب واضحة لا تقبل المساومة الانتهازية المذلّة لشعب مصر العربي العظيم المفاجئ للتاريخ وللعالم. صورة الحاضر المشعّة يراها الإنسان عبر شاشة الجزيرة وغيرها دون حاجة لفذلكة أو مزيد.
لكنّ الحاضر لا يستطيع الانفصال عن علل الماضي ولا عن آمال المستقبل. في هذا المقال الموجز دعنا نسلّط الضوء على جانب محوري شلّ الحياة السياسية لا في مصر فقط وإنما في كل بلاد العرب.
لقد كان أحد أبرز وأهم مميّزات نظام الحكم في مصر ما قبل الثورة الحالية، وعلى امتداد ثلاثين سنة، هو اعتماد سلطته على توليد ونشر ثقافة التخويف. لقد كان هناك فيض لا ينقطع، تنشره آلة إعلامية ومخابراتية محلية هائلة تساعدها آلة إعلامية مخابراتيّة غربية وصهيونية وعربية رجعية متناغمة، فيض من دعاوى وفبركات وأكاذيب التخويف... التخويف من الإسلام السياسي لأنه سيبني دولة دينية كهنوتية غير ديمقراطية، من اليساريين لأنهم يريدون إيقاف الانفتاح الاقتصادي وبالتالي عرقلة الاستثمارات الآتية من الخارج، من القوميين لأنهم سيحاولون العودة إلى الوراء وإحياء الناصرية، من النقابات لأنّها بمطالبها وإضراباتها تعرقل الإنتاج والاستثمار والتنافس في عالم العولمة، من حزب اللّه لأنه يكسر الحصار الجائر على غزّة ومن ثمّ يحرج الحكومة المصرية أمام العالم الغربي والكيان الصهيوني، من ومن... في سلسلة طويلة لم تترك أحداً أو إعلاماً لا يقف بجانبها أو حركة لا تسير في ركابها إلا ووضعته في خانة التخويف وفي خانة التآمر على مصر وشعبها.
إضافة الى توليد ونشر ثقافة التخويف تلك على المستوى الجمعي حتى تشلّ كل أصوات الانتقاد أو المعارضة، توجّه النظام إلى الفرد نفسه ليبني في عقله ووجدانه مشاعر الرّعب والخوف. تمّ ذلك من خلال ماكنة هائلة من الجواسيس والمخبرين والبلطجية، يقال إن عدد أفرادها وصل إلى المليونين، والتي كانت تراقب كل كلمة أو حركة يقولها أو يأتي بها أي فرد لينتهي به المطاف لفقدان الوظيفة والخدمات العامة أو للاختطاف أو لدخول السّجن أو للاغتصاب أو للتشهير العاهر من قبل بعض وسائل الإعلام المحلية الفاجرة.
لقد امتزجت ثقافة التخويف المجتمعية بمشاعر الخوف والرّعب الفردية لتخلق وضعاً سياسياً غير قادر على ممارسة المساءلة والمحاسبة، وهما من أعمدة الممارسة الديمقراطية، فتفشّى الفساد وترسّخت اللصوصية وديس على القيم. وكدنا نصل إلى قناعة بأن تلك الحلقة الجهنمية من التخويف والخوف قد تمكّنت من رقبة وروح شعب مصر العظيم وإطفاء تاريخ نضالاته وثوراته وانتصاراته. وبدا أن المثل الإسباني القائل إنّ حياة تُعاش في الخوف هي نصف حياة أصبح ينطبق على إنسان مصر.
وللحقيقة والإنصاف فقد حاول المجتمع المدني المنظّم، بالرغم من انقساماته وضعفه، أن ينتفض ضدّ الخوف، لكنه لم ينجح، إلى أن فاجأنا شباب مصر، كما فاجأنا من قبل شباب تونس، بمبادرته التاريخية لإنقاذ نفسه وشعبه ومجتمعه من جحيم العيش في ظلال الخوف المذل للإنسان العربي المصري.
إذن فثورة مصر الشعبية، ومن قبلها ثورة تونس، حطّمتا حواجز خوف المجتمع من قوة قمع السّلطة التي تحكمه. ومن خلال متابعة أحداثهما البطولية المبهرة ومشاهدة أنوار تألُّقهما الذي عمّ الأرض العربية، بل والعالم كلّه، بدأت ظاهرة كسر حواجز الخوف تنتشر فكانت مظاهرات الأردن واليمن والسودان والجزائر، والأفق يبشّر بالأكثر في كل بقاع الوطن الكبير.
لكنّ ذلك لن يكفي، فإنهاء خوف المجتمع من بطش السُّلطة التي تحكمه يجب أن يتبعه العمل على بناء خوف ورهبة السلطة من غضب وقدرات مجتمعاتها. إن ذلك سيحتاج لتأسيس كل الأدوات القانونية والتنظيمية والعقابية التي تجعل سلطة الدولة في خوف دائم من المساءلة والمحاسبة والنّبذ من قبل قوى مجتمعها.
في الدولة العربية غير الديمقراطية حوّلت السلطة السياسية المستبّدة جهازي الأمن والإعلام إلى أداتي تخويف وترهيب. فوزارة الداخلية التي وجدت في الأصل لحماية أرواح وممتلكات المواطنين وبناء السكينة في نفوسهم قلبها الطغيان إلى أداة تجسّس للابتزاز والقهر والاعتداء على الحقوق والكرامة. ووزارة الإعلام التي أريد لها في الأصل أن تكون أداة تثقيف وتنوير ومعرفة انقلبت إلى أداة كذب وتلفيق وتلاعب بالعواطف والعقول وتبرير وتزيين لكل الممارسات الخاطئة التي ترتكبها السلطة. وكانت النتيجة أن انقلبتا إلى أداتي تخويف وخوف لشلّ إرادة وحريّة المجتمع والفرد.
وعليه، فإلى حين وصول الدولة العربية إلى مرحلة من الديمقراطية المعقولة لابدّ من وضع ضوابط مجتمعية لمنع استعمال جهازي الأمن والإعلام من قبل البعض لأغراض تخدم مصالح ضيّقه أنانيّة وذلك على حساب الصّالح العام ومصالح المجتمع المشروعة. كيف يمكن ذلك؟ سؤال سنحاول الإجابة عليه في مقال قادم.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 3077 - الإثنين 07 فبراير 2011م الموافق 04 ربيع الاول 1432هـ
كسر حاجز الخوف
من كثر الظلم والجوع والتشرد الذي عانوا منه من سنين فكسر حاجز الصمت ايضا