العدد 3076 - الأحد 06 فبراير 2011م الموافق 03 ربيع الاول 1432هـ

عمران القاهرة والتفاؤل التاريخي

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

تقاس أعمار الإنسان بالساعات والأيام والشهور والسنين بخلاف أعمار الدول والأمم والشعوب، فإنها تقاس بالقرون بل بعشرات القرون. ومن هنا تنبع أهمية التفاؤل التاريخي أو البعد الإستراتيجي ذلك لأن ذاكرة الفرد، ونظراً لقصر نظره تجعله ينسى أو يتناسى ذلك تحت المؤثرات الوقتية، ومن هنا ترجع أهمية الكتاب بل الموسوعة المعنونة «عمران القاهرة» للأستاذ المساعد للعمارة بكلية الهندسة جامعة الأزهر بمصر ورئيس قسم الهندسة المعمارية بجامعة المملكة بالبحرين الدكتور خالد محمود هيبة.

وإذا كان النظر السريع لا يتعمق في المصطلحات، ويراها أحياناً صدفة محضة، فإن النظر المتعمق للأمور الذي يدرك الخطة الإلهية عميقة الجذور والشاملة للكون، ومن ثم لا يتوقف عن ذلك بل يسعى لفهم وسبر غور بعض الأحداث، وإن بدت كما لو كانت محض صدفة مثل حالة الدكتور خالد هيبة (الاسم له دلالة) وكونه ينتمي لمدينة الإسكندرية (تاريخ عريق) وأستاذ بجامعة الأزهر (بأصالة دينية توحد المذاهب الإسلامية) وجامعة المملكة في مملكة البحرين (لاستعادة تاريخ مجيد عبر حاضر مبشر وواعد)، لقد قالت الأمثال الحكيمة «إن للمرء من اسمه نصيب»، واعتمد العلم الحديث في مناهجه منهج «دلالات اللغة وظلال مفردات الكلمات»، وهذا ما لمسته من المصطلحات والكلمات في عنوان الكتاب واسم المؤلف وأماكن عمله. هل هي مصادفة أم هي تخطيط لهي محكم إعمالاً لقوله سبحانه تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ» (المؤمنون: 115)

لقد قرأت كتاب «عمران القاهرة» ووجدته كتاباً موسوعياً يجمع ثلاث أطروحات رئيسة:

الأولى: الفكر العمراني الهندسي وتطوره في القاهرة عبر عصورها المختلفة وما يتصل بها من تخطيط عمراني.

الثانية: الفكر الاجتماعي الإنساني حيث هندسة المعمار ليست مجرد علم جامد وأصم، وإنما هو علم يرتبط بالإنسان وثقافته وبيئته وتاريخه والمرحلة التي يمر بها.

الثالثة: البعد التاريخي أو بالأحرى التفاؤل التاريخي الحضاري.

ولا عجب في أن العلامة العربي عبدالرحمن بن خلدون عندما زار القاهرة قادماً من الأندلس بحضارتها، ومن شمال إفريقيا العربي الإسلامي بتاريخه أطلق الوصف الخالد على القاهرة في مقولته الشهيرة التي ربما كررها اليوم كثيرون عن إيمان واقتناع، وربما كتعبير عن ماضٍ عريق، وهي مقولة «مصر أمّ الدنيا»، هي أمّ مثل كل الأمهات باعتبارها مصدراً لحضارة تولد وتتطور وتشيخ، ولكنها أمّ متجددة عبر السنين، لأن الأبناء والأحفاد يحافظون عليها أو يهملونها. ومن هنا أهمية التفاؤل التاريخي في النظرة لحضارة مصر وتاريخها وواقعها العمراني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ورغم أنني من أنصار التفاؤل التاريخي فإنني أحياناً أشعر بقدر من الإحباط، إزاء تعقد المشاكل الراهنة، ولكن عاد إلى فكري مجدداً منطق التفاؤل التاريخي من خلال واقعتين ذات دلالة.

الأولى: الموسوعة المعنونة «عمران القاهرة» والتي ترددت في البداية في الاهتمام بها لأنني لستُ مهندساً معمارياً، وإنما باحثاً في علوم السياسة. ولكن ما إن بدأت قراءتها حتى أدركت خطأ موقفي المبدئي والنظرة السطحية للأمور، مثل شأن كثير منا نحن العرب، وبخاصة بعض المثقفين عندما يعترينا بعض الغرور، ونقوم بتقديم فلسفات ونظريات وآراء تجاه كثير من الأمور دون دراستها بتعمق بل دون قراءتها مطلقاً، ومن نماذج ذلك موقف كثير من المثقفين العرب من اتفاقيات كامب ديفيد ومبادرة السلام التي أطلقها الرئيس الراحل أنور السادات. أو موقف بعض المصريين وبعض العرب من الحالة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة في مصر، بل من الحالة السياسية الراهنة في العالم العربي بأسره، وما يعيشه من حالة من التهميش، وهي من منظور البعد التاريخي حالة عابرة في تاريخ الشعوب والحضارات.

الثانية: مقال لكاتب سعودي هو الأستاذ جميل فارسي هو بعنوان «أنصفوا مصر»، والذي انتشر في مواقع الإنترنت، يخاطب فيه ابنه الشاب، ومن خلاله الأجيال الجديدة، عن مصر ودورها وتاريخها، ويذكر ما قامت به عبر العصور، ويعيد تكرار مقولة التفاؤل التاريخي وإن لم يستخدم المصطلح وإنما المضمون.

وعلى الجانب الآخر فإن التفاؤل التاريخي لا ينبغي أن يجعلنا نركن للسكون أو نرضى بما هو قائم بدون نقد، واستشهد في هذا الصدد بعدة مقالات منشورة لعلماء وكتاب وباحثين مصريين حول الوضع غير المناسب للعمران المعاصر والفوضى المرورية ونحو ذلك الذي تعيشه القاهرة، ولعلي أشير على سبيل المثال لمقال الدكتور حمدي حسن أبو العينين بعنوان «الفرص الضائعة في عمارة القاهرة» المنشور في الأهرام بتاريخ 26 ديسمبر/ كانون الأول العام 2010، هذا الجانب النقدي يمثل أيضاً منهجاً ضرورياً ولازماً ليكمل منظور التفاؤل التاريخي، ولعلني أعيد استذكار فلسفة العمران التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته، وفي كتابه التاريخي المعنون «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». ويهمنا من فلسفة ابن خلدون بعدها السياسي القائم على مفهوم «العصبية» في نشأة الأمم وقوتها وتدهورها. ومفهوم العصبية، كما أوضح أستاذ العلوم السياسية القدير الدكتور حامد ربيع (رحمه الله)، هو محور فلسفة وفكر ابن خلدون السياسي، والعصبية، بمعنى القوة وبمعنى الحزب السياسي، هي تعبير عن الفكر العربي والإسلامي، بل الفكر العالمي في عمقه الفلسفي، ولهذا قال القرآن الكريم: «وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ ‏وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ ‏تُظْلَمُونَ» (الأنفال: 60).

هذه القوة تعنى ثلاثة أمور: القوة المادية من أحدث أسلحة العصر، والقوة البشرية لإتقان العلم والتكنولوجيا في شتى فروع المعرفة، والقوة الروحية وهي قوة الإرادة والإيمان بالنصر. وبدون هذه المظاهر الثلاثة للقوة فلن يحدث التفاؤل التاريخي من منظور علمي، وإنما يتحول إلى أوهام وأحلام.

إن كتاب عمران القاهرة هو موسوعة لم تستكمل بعد، فمؤلفه يسعى لكي تكون هناك كتب أخرى عن المدن العربية، وبخاصة مدن الخليج ذات الأبعاد الحضارية العريقة، ومن هنا فإنني أعبر عن التقدير للجهد البحثي المتميز للدكتور خالد هيبة. وفي نفس الوقت أشيد بدور جامعة المملكة ورئيسها الدكتور يوسف عبدالغفار، لأنها تبنت إصدار هذا الكتاب العلمي القيم، وهي تساعد وتدفع الباحث لاستكمال السلسلة عن المدن الخليجية الأخرى، وهكذا تكون الجامعات ذات المكانة والدور والطموح، وحبذا لو اقتدت كل الجامعات الأخرى الخاصة أو الحكومية بتشجيع العلماء والباحثين كل في مجاله، وحبذا أكثر لو تحول الكتاب أو ملخص له للغة الإنجليزية لكي يتعرف عليه باحثون أجانب، إذ إننا في عصر العولمة لابد من الكتابة ولو مختصرة لأبحاثنا باللغة الإنجليزية، حتى يعرف الآخرون ما لدينا من علم ومعرفة وحضارة من منظورنا العربي والإسلامي، وليس فقط من منظور المستشرقين رغم تقديري لدورهم، ولكن رؤيتهم ليست كاملة وأحياناً ليست منصفة.

إن مسئولية دول الخليج العربية التي حباها الله بثروات هائلة في هذه المرحلة التاريخية هو أن تشجع العلماء من مختلف التخصصات، وخاصة العلماء العرب وليس فقط رصد الجوائز للعلماء الأجانب واستقطابهم. لقد لعب المأمون ذلك الخليفة العباسي المتميز دوره في بناء «دار الحكمة»، ولعبت مصر القديمة دورها في بناء «مكتبة الإسكندرية» العريقة والتي تعيد إحياء دورها الآن، وإن كان بصورة مختلفة تعبر عن متطلبات العصر، وهذا ما نتمنى أن تكثف دول الخليج العربية دورها فيه في مجال البحث العلمي والتكنولوجي في شتى القطاعات، مستفيدة من الثروات الوفيرة في هذه المرحلة التاريخية المهمة.

إننا نعيش عصر العولمة وعصر التكنولوجيا، وفي نفس الوقت علينا أن نواكب العصر من منظورنا الحضاري والعمراني، وفي إطار التفاؤل التاريخي لاستعادة حضارتنا وفقاً لمتطلبات العصر، وليس الانسحاق والانبهار بالآخرين، والإحساس بالإحباط واليأس الذي ينشره للأسف بعض المثقفين العرب بدون وعي، ما يحقق هدف الأعداء، في أننا أصبحنا خارج التاريخ، ولا دور لنا، ومحصلة ذلك أن نكون تابعين للقوى العظمى الدولية أو للقوى الإقليمية غير العربية، في حين أنّ لدينا علماء بارزين ولدينا موارد ضخمة، وكل ما ينقصنا هو التنظيم والإدارة، ومن ثم انطلاق العرب نحو أفق المستقبل الرحب

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3076 - الأحد 06 فبراير 2011م الموافق 03 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:47 ص

      عظيمة يامصر

      شكرا للدكتور نعمان على هذا المقال الرائع.

اقرأ ايضاً