لم يقصد ابن حزم في دفاعه عن الفلسفة الدفاع عن الفلاسفة بل قصد تبيان أن غرضها هو غرض الشريعة. فالتركيز على فكرة اللقاء لا تعني عنده التوفيق إلى درجة التركيب والدمج بل قصده منها إلغاء التعارض وتبيان درجات الاتصال بين مقاصد الفلسفة وأغراض الشريعة واستخدام الأدلة البرهانية لإثبات الحقائق الكلية التي جاءت في الكتاب والسنة بإجماع الأئمة. فالحق عنده واحد لا ينقسم وطريقه لا يحتمل التعدد فهو «بموجب العقل وضرورته» لا يكون الحق «من الأقوال المختلفة والمتناقضة إلا في واحد، وسائرها باطل (...) إذ ما لا دليل على صحته فهو باطل» (الفصل، الجزء الأول، صفحة 174).
استنادا إلى الحس والعقل والضرورة أكد ابن حزم على وحدة الحقيقة وألغى تعدد طرقها. فالحقيقة الواحدة لا بد لها من وسيلة واحدة ولا مجال عنده لتعدد الطرائق. وبرأيه لا مجال «أن تكون الشرائع كلها حقا»، ولا مجال «أن يكون بعضها حقا وسائرها باطلا» فهذا «محال لا سبيل إليه» لأنه «لا شريعة منها إلا وهي تكذب سائرها» كذلك «كل شريعة فهي مضادة في أحكامها لغيرها» ومن المحال «أن يكون الشيء وضده حقا معا في وقت واحد» (الفصل، الجزء الأول، صفحة 174).
بسبب إنكار ابن حزم تعدد الحق وطرائقه قام بدحض كل ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية (ما خالف القرآن فهو باطل) مستخدما منهج المقارنة بين النص القرآني والنصوص الدينية المخالفة في التوراة والإنجيل وانتهى إلى فرضيات عقلية تقول إن نصوص التوراة تعرضت للتزوير والتحريف وهي غير تلك النصوص الأصلية المنزلة. فالحرام هو حرام ولا يمكن تعدده أو تغيره بين شريعة وأخرى كذلك الحلال وغيره من أحكام. وانتقل بعدها إلى مساجلة المنظومات الفقهية الإسلامية وآراء الفرق والمذاهب الإسلامية أو الخارجة على الإسلام للتأكيد في النهاية على وحدة الحقيقة أو الحقيقة الواحدة التي لا يجوز الجمع فيها بين الحق والباطل أو بين الحلال هنا والحرام هناك. ويختلف ابن رشد عن ابن حزم في هذه المسألة فقاضي قرطبة يقول بوحدة الحقيقة لكنه يرى أن الطرق إليها متعددة.
حتى ينسجم ابن حزم مع منظومته الفكرية حدد مصادر الحقيقة بستة أقسام (ثلاثة على صواب وثلاثة على خطأ) أولها «شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلا جيلا، لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر، منصف غير معاند للمشاهدة، وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها...». وثانيها «شيء نقلته الكافة عن مثلها حتى يبلغ الأمر كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم». وثالثها «ما نقله الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم» (الفصل، الجزء الثاني، صفحات 219 - 221).
إلى هذه الاقسام الثلاثة «التي نأخذ ديننا منها، ولا نتعداها إلى غيرها» هناك ثلاثة أقسام إضافية أخذ بها غيره من الفقهاء والعلماء ورفض هو الأخذ بها وهي:
أولا «شيء نقله أهل المشرق والمغرب أو الكافة عن الواحد الثقة عن أمثالهم إلى أن يبلغ إلى من ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحد فأكثر، فسكت ذلك المبلوغ إليه عن من أخبره بتلك الشريعة...».
ثانيا «شيء نقل، كما ذكرنا، أما بنقل أهل المشرق والمغرب، أو كافة عن كافة، أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في الطريق رجلا مجروحا يكذب أو غفلة، أو مجهول الحال...».
ثالثا «نقلٌ نقلَ بأحد الوجوه التي قدمنا، أما بنقل من بين المشرق والمغرب أو بالكافة، أو بالثقة عن الثقة، حتى يبلغ ذلك إلى صاحب أو تابع، أو إمام دونهما - أنه قال كذا، أو حكم بكذا غير مضاف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم...» (الفصل، الجزء الثاني، صفحة 222).
هناك من المسلمين من يأخذ بالأقسام الثلاثة الأخيرة ومنهم من لا يأخذ بها، وابن حزم من الصنف الذي لا يأخذ بها. وبسبب اختلافه المنهجي قام بإضافة الفرق الإسلامية إلى اليهودية والمسيحية في مساجلاته ونقاشاته العقائدية فانتج ثروة فكرية هائلة الحجم كان لها تأثيرها الكبير في جيله وعصره وتركت علامات كثيرة على المدارس الفقهية والفلسفية التي جاءت بعده. وتعدت تأثيرات ابن حزم النطاق الإسلامي فترجمت بعض أعماله إلى اللغات الأوروبية واعتبرت حتى القرن الثامن عشر الميلادي من أهم المصادر الفكرية في حقل علم المقارنة بين الديانات السماوية الثلاث كذلك في توضيح اختلافات الفرق الإسلامية وتمايز أفكارها ومناهجها ومنابعها.
على هذا أسس ابن حزم اختلافه عن المدارس الفقهية المنتشرة آنذاك في الأندلس وخصوصا المالكية (أصحاب مالك) والشافعية (أصحاب الشافعي) انطلاقا من العمل «بظاهر القرآن وبظاهر السنن الثابتة». (الفصل، الجزء الثاني، ص 232).
بسبب اختلاف فلسفة الفقه في منهجه أقدم ابن حزم على تصنيف فرق الإسلام إلى خمس وهي: أهل السنة، المعتزلة، المرجئة، الشيعة، والخوارج، ثم «افترقت كل فرقة من هذه على فرق» (الفصل، الجزء الثاني، ص 265). وتدرجت الفرق الأربع من اقترابها أو ابتعادها عن أهل السنة. واعتبر أقرب فرق المرجئة إلى أهل السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة (النعمان بن ثابت) والقول إن الإيمان «هو التصديق باللسان والقلب معا، وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط» وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان وأبو الحسن الأشعري. واتهم الامام الاشعري بأنه من القائلين «إن الايمان عقد بالقلب فقط، وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه» (الفصل، جزء 2، ص 266). ورد الأئمة والفقهاء على ابن حزم لاحقا واتهموه بقلة المعرفة وعدم الاطلاع على مؤلفات الأشعري.
إلى الخلاف الفرقي، صنف خلافات المسلمين على مسائل عقائدية حددها بسبع وهي: التوحيد، القدر، الإيمان، الوعيد، الإمامة، المفاضلة، واللطائف، فقام بتوضيح كل خلاف وتحديد الفروق انطلاقا من منهجه الفقهي. (الفصل، جزء 2، ص 175).
تقوم فلسفة الفقه عند ابن حزم على منظومة هرمية تبدأ بالأول وهو «الباري تعالى محرك المتحركات ومصور المتصورات» وبالتالي فالعالم والزمن والحركة كلها محدثات وليست قديمة. فالحركة والسكون مدة «والمدة زمان» و»أن الزمان محدث، فالحركة محدثة، كذلك السكون». (الفصل، الجزء الثاني، ص280). وهناك حامل للكل وممسك للكل وهو «ألله عزّ وجلّ» (الفصل، جزء2،ص292). وينفي الصفات ويتهم المعتزلة باختراع اللفظة وينكر على بعض الأئمة من الفقهاء من أخذ بها. فعلم الله غير مخلوق و»ان علمه تعالى بالأشياء كلها متقدم لوجودها ولكونها ضرورة» (الفصل، جزء 2، صفحة 297). فالعلم لا يتبدل بل المعلوم لذلك «لا يجوز الكلام في النتيجة إلا بعد اثبات المقدمات، فإن ثبتت المقدمات ثبتت النتيجة، والبرهان لا يعارضه برهان (...) وإن لم تصح المقدمات فالنتيجة باطلة دون تكلف دليل». (الفصل، الجزء الثاني، صفحة 299).
تميز منهج ابن حزم بالقطع فهو يأخذ ظاهر القرآن والسنة وتآلف الآيات ويرفض القياس وخبر الواحد ويؤكد على العقل والحس والضرورة والبرهان والأدلة كأدوات تحليل وتركيب للمقدمات والنتائج. فهو يكرر دائما مفردات «العقل» في نصوص مختلفة عند تأييده لفكرة أو نفيه لأخرى. فهو يستخدم في سجالاته فقرات نافية للآخر مثل «هذا لا يعقل ولا يقوم عليه دليل» أو هذه «دعوة مجردة بلا دليل» أو «هذا محال في العقل» وصولا إلى انتاج قاعدة نظرية عامة تقول: «من ادعى دعوى لا يأتي عليها بدليل فهي باطلة. فكيف إذا أبطلها الحس وضرورة العقل» (الفصل، الجزء الثاني، صفحة 300).
انتهت فلسفة الفقه عند ابن حزم إلى فشل الجانب الفقهي من مشروعه حين تجاوز الزمن أمثلته العلمية والبرهانية، ورفض أتباعه (المذهب الظاهري) الأخذ بالقياس لتجديد التفسير فتراجع تأثير أصحاب المذهب وتقلص انصاره وصولا إلى اضمحلاله، بينما نجح الجانب الفلسفي والسجالي من مشروعه في التأثير على أجيال أندلسية لاحقة في بلد عرف بتعدده الحضاري وتنوعه الديني والمذهبي وتعرضه المستمر إلى حملات من الفرنجة. كذلك أثرت نظريات الأدلة الحسية والبرهانية في من جاء بعده. فالأدلة البرهانية تحولت عند ابن رشد إلى علم برهاني، وعلم المقارنة استخدمه قاضي قرطبة في عقد مقارنة بين المذاهب الفقهية الإسلامية. وشجعت جرأة ابن حزم وشخصيته الصدامية ونقده العنيف للأشاعرة وبعض الأئمة الفقهاء ابن رشد لاحقا على التهجم على الاشعرية (الأشاعرة) وقدحه لشخصية الامام الغزالي وتحريضه السلطة على مصادرة كتب الاشاعرة وحرق مؤلفات الغزالي ما آثار على قاضي قرطبة العامة والخاصة فأقدم الحاكم (المنصور) على مصادرة بعض كتب ابن رشد وحرق بعضها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2443 - الخميس 14 مايو 2009م الموافق 19 جمادى الأولى 1430هـ