إن من الدروس المهمة الكثيرة التي يمكن استخلاصها من التحولات الرهيبة والمتلاحقة في المنطقة منذ مطلع العام الجاري، درسٌ مهمٌ للغاية، وهو تخلي الولايات المتحدة الأميركية عن أعز أصدقائها الدكتاتوريين في لمحة بصر.
لقد أدارت واشنطن ظهرها لحلفاء وأصدقاء قدامى، وتخلت عن أنظمةٍ سياسيةٍ كانت تمثل إلى ذات يومٍ قريب الركيزة الأولى لتنفيذ أجندة السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي أنظمة شمولية ودكتاتورية ما كان لها أن تمد سطوتها لعقود طويلة لولا الغطاء الأميركي المباشر وغير المباشر، والدعم الأميركي المعلن وغير المعلن.
لم تكن الولايات المتحدة وعلى مر السنين تبدي استجابة لأي مطلبٍ من مطالب شعوب المنطقة، لكنها أضحت بين عشيةٍ وضحاها وكأنها الناطق الرسمي باسم الشعوب العربية والمعبرة عن ضمائر عشرات الملايين من الشباب في العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
كانت الأنظمة السياسية العربية تمثل الأداة الأولى للحفاظ على المصالح الأميركية في هذه المنطقة بالغة الحيوية وذات الأهمية الإستراتيجية، نظراً لقائمةٍ طويلةٍ من الاعتبارات الوجيهة. فالولايات المتحدة سعت وبشكلٍ دائم إلى تأمين أنظمةٍ تؤمن الهيمنة للوجود الأميركي في المنطقة.
الولايات المتحدة تعتمد وبشكلٍ رئيسي على ثروات المنطقة من الطاقة لتأمين إمداداتها النفطية، وأثبتت التجارب جدارة الأنظمة العربية في تحقيق أمن الطاقة الذي توليه واشنطن أهمية قصوى تفوق أي اعتبارات هنا أو هناك.
الأنظمة العربية الحالية شكلت نافذة كبيرة لتعزيز النفوذ الأميركي عبر اتفاقيات التعاون الاستراتيجي واستضافة القواعد العسكرية الأميركية بشتى أنواعها، ومساعدة الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب وغير الإرهاب، كما قدمت هذه النظم السياسية مساعدات مالية ولوجستية هائلة ودفعت فواتير الحروب الأميركية في المنطقة على مدى ثلاثة عقود. ووثقت ارتباطها بالدولار الأميركي وفتحت عواصمها لاستقبال منتجات السوق الأميركية بشتى أنواعها. وفتحت أجواءها ومياهها وأراضيها للوجود الأميركي. هذه الأنظمة كانت ولا تزال تشكل أكبر مشترٍ للأسلحة الأميركية بسخاء، وفي كل شهر يتنامى إلى أسماعنا الحديث عن صفقة لشراء أسلحة بمليارات الدولارات. وفوق ذلك كانت واشنطن سعيدة للغاية بأن هذه الأسلحة ورغم أنها تستنزف الموازنات وتشكل عقبة في طريق التنمية الحقيقية لكنها كانت تضمن أن هذه الأسلحة ليست موجهةٍ للخارج ولن تستعمل في حرب دفاعية ولا هجومية.
كثيرة هي التقارير التي أصدرتها دوائر السياسة الغربية ومراكز الأبحاث الإستراتيجية والتي تثبت الأهمية الكبرى لوجود الأنظمة العربية الحالية لحماية النفوذ الأميركي والغربي من جهة ولضمان عدم التعرض أو الاعتداء لإسرائيل، البنت الدموية والمجنونة المدللة للغرب في قلب المنطقة.
في المقابل، تدرك الولايات المتحدة جلياً بأن الأنظمة العربية الحليفة هي من طراز الدكتاتوريات المطلقة، التي لا تؤمن بالحكم الصالح ولا تعترف بمنطق دولة القانون والمؤسسات وترفض الحريات العامة والشخصية وتعارض بشدة العدالة والمساواة والتعددية السياسية. وتعرف واشنطن جيداً أن حلفاءها هم ليسوا سوى أنظمة بعيدة كل البعد عن الشفافية بل هي أبواق للفساد ورمز لاحتكار السلطة والثروة.
ولكن رغم تخلفها الكبير كان يشفع لها تشبثها بالذيل الأميركي وتمسكها بتلابيب السياسة الأميركية وكان يشفع لها إخلاصها الحميم لسادة البيت الأبيض، بيد أن ذلك العهد القديم من الصداقة الوثيقة بدأ ينهار ويتلاشى منذ مطلع العام الجاري «عام الثورات العربية» التي نجحت في زعزعة وجود الأنظمة الحالية التي تحكم شعوبها بالقوة والنار والبلطجية.
فعلى حين غرة تتخلى واشنطن عن الرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي (الحليف المهم للولايات المتحدة في شمال إفريقيا)، ويخرج الرئيس الأميركي باراك أوباما ليعلن وقوف الولايات المتحدة مع طموحات شعوب الشرق الأوسط في الحرية، وهي نغمة مبتكرة ونبرة غير مألوفة في الإيقاع السياسي الأميركي.
وهكذا وبلا مقدمات يخرج الرئيس الأميركي على رؤوس الأشهاد وبحماس يفوق حماس الشباب المتجمعين في ميدان التحرير ليعلن أن على الرئيس المصري حسني مبارك الذي يواجه ثورة سخط شعبي عارم أن «يرحل»، ويضيف أوباما في تعليماته: «التغيير في مصر يجب أن يبدأ الآن وليس غداً»... لذا من حقنا أن نضع آلاف علامات الاستفهام والتعجب والريبة على التحول الغريب في المنطق الأميركي، فكيف تحوّل مبارك الصديق القوي والحليف الدائم إلى رجلٍ غير مرحبٍ به في حكم مصر ويجب عليه المغادرة عاجلاً لا آجلاَ!
هل نست الولايات المتحدة أو تناست الخدمات الجليلة التي أسداها النظامان التونسي والمصري وبقية الأنظمة العربية لصالح تعزيز النفوذ الأميركي الاستراتيجي وتحقيق المصالح الأميركية متعددة الأهداف وبعيدة المدى في المنطقة؟ هل من المنطقي أيضاً أن تتجاهل واشنطن حجم إخلاص هذين النظامين خصوصاً، وبقية الأنظمة العربية عموماً وتنافسهم في نيل الرضا الأميركي على الدوام؟
ثمة من يقول بأن الإدارة الأميركية اضطرت لأن تركب الموجة لكي تتحاشى الوقوف في وجه بركان غضب عربي يحمّل الولايات المتحدة المسئولية الكاملة في التواطؤ مع الأنظمة في قمع تطلعات الشعوب في الإصلاح والتغيير. ولكن هذا المبرر وإن كان فيه نصيبٌ كبيرٌ من الواقعية، غير أنه ليس سبباً كافياً في تفسير رفع الحماية عن أهم الأنظمة الحليفة التي باتت مكشوفة الظهر أمام الزلزال الشعبي من جانب ورائحة الخيانة المؤلمة من أقوى وأهم أصدقاء الخارج وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
الشيء الوحيد الأكيد الذي لا يمكن الاختلاف عليه الآن: أن الولايات المتحدة نفضت يدها على ما يبدو من أنظمةٍ تجابه التمرد الجماهيري. وأنه في المنطق الأميركي ما من صديقٍ أو عدوٍ دائم (كما قال هنري كيسنجر ذات يوم)، ومن غير الخفي أن واشنطن بدأت رحلة البحث عن وجوه جديدة وواجهات سياسيةٍ أخرى يمكن أن تكون أقل ضرراً على بوصلة المصالح وأقل تشويهاً للسمعة الأميركية حول العالم...
أما نحن فنخشى كثيراً من الصحوة الأميركية المتأخرة
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 3075 - السبت 05 فبراير 2011م الموافق 02 ربيع الاول 1432هـ
امريكا اجبّرت
امريكا اجبّرت على التخلي عن حلفائها يقوة الشعوب