حين يراهن المثقف على بقاء الطاغية، يكون قد غمس يده في الدم الذي أريق. لا أجد تفسيراً لرجل يودِّع عقده السابع من العمر، يورط تاريخه وإنجازه وحضوره وأثره وقيمته ورمزيته في هكذا موقف بقبول أن يكون رمزاً من رموز حكومة يشكلها الطاغية.

جابر عصفور، وزيراً لثقافة الطاغية في مصر. في هكذا قبول مستفز للأمة كل الأمة، وخصوصاً لشريحة كان يمثلها، ولأخرى كانت تصغي إلى طروحاته وشريحة لم تستوعب تلك الطروحات، ولكنها كانت تحترم الرجل امتثالاً للفنان سعيد صالح في مسرحة «العيال كبرت»: «عليَّ النعمه إنته بتئول كلام كبير... كبير أوي» فلا الرجل في هكذا موقف مثّل شريحة كان ينتمي إليها وتصغي إلى طروحاته، ولا هو باجتراحه هكذا موقف مثّل ما اشتغل عليه من موضوعات التنوير، مقابل إظلام وظلم يمارسه الطاغية، والعدل الغائب من الحياة العامة المصرية، وحقوق الإنسان (الشبح في الواقع وفي التفاصيل) ودور المثقف الغائب؛ بل والزائف والذاهب في الاتجاه المضاد بانتساب مثقف ومفكر سابق إلى حركة إنقاذ الطاغية من مأزقه. أما زمن الرواية فقد اختصره عصفور في نهاية عقده السابع؛ بانضمامه إلى حكومة الطاغية ليسهم في تدشين زمن روايته ومصادره ورؤيته إلى العالم من حوله. عالم يراد له أن يكون ملْكاً وفضاء خاصاً بالطاغية يعبث به كيف وأنّى شاء!

لن نشعر بشفقة عليك في الخريف الأخير من العمر وأنت تذهب بوثوق بالغ بالرهان على بقاء الطاغية من جهة، والاطمئنان إلى أن غمس يدك في الدم الذي أريق لا يعدو كونه تيمماً بفقه المصالح! تيمماً بالدم!

بقي أن أقول، إن الشهداء لا يملكون فائضاً من العمر كي يذهبوا هكذا عبثاً في صدامات عبثية ليست ذات جدوى. الشهداء ينتخبون أهدافهم وخياراتهم وحتى وقتهم. يعرفون متى يفتحون شرفات أوداجهم وشرايينهم كي تطل على المخزي والمتخاذل والمتواطئ من المواقف.

أعلم أنهم يذهبون أحياناً بغصّتهم بخيانة سخونة دمهم وهو يهدر أعمارهم وهي تستعرض ما بعد الرحيل؛ لكن الذين يملكون ذرة من شرف وعي وكرامة موقف، وحتى تأصيل لهراء يسوقونه، عليهم أن يجفلوا ويخجلوا من سخونة الدم؛ لأنه لم يقدّر له أن يسفح هكذا بسذاجة وعي كما يسفح ماء السطوح والسيارات وحتى غسيل موتى –ولا أقول شهداء– نحبهم في مواجهات لا شرف لهم في خوضها