«هل نحن في زمن ازدهار الرواية أم زمن فوضاها؟» هكذا اختار الروائي اللبناني حسن داوود هذا التساؤل مدخلا لمحاضرته عن الرواية العربية وذلك غداة استضافته في مركز الشيخ إبراهيم بالمحرق (مساء يوم الاثنين 10 يناير/ كانون الثاني 2011م) بحضور مجموعة من المثقفين والمهتمين ورواد المركز.
في بداية محاضرته استذكر حسن داوود لقاءه بالألماني هارتموت فايندريش، المشتغل بترجمة الروايات العربيّة إلى الألمانيّة، حيث اتسع عمله في هذه السنوات الأخيرة. «في منزله بسويسرا كدت لا أصدّق أنّ الكتّاب العرب أنجزوا هذا الكمّ من الروايات، فقد غصّت بها رفوف مكتبته التي ملأت مساحة الغرفة كلّها، طولا وعرضا، وتقاطعا أيضا. حين كنّا طلابا بعدُ في الجامعة كان يمكن لواحدنا أن يستذكر الروايات وكتّابها مقتربا بأن يفعل ذلك بالعدّ على أصابعه. في لبنان مثلا كان علينا أن ننتظر سنوات حتى نشهد صدور رواية جديدة. وفي مصر كان الروائيّون قليلين، أربعة أو خمسة بحسب ما كنّا نعلم. من أين لك هذا كلّه يا هارتموت؟». كان في كلّ سنة يقوم بجولة على مدن عربيّة ليجمع ما صدر فيها من روايات، هكذا على نحو ما كان التجّار القديمون يسعون في التنقّل بين البلدان. في لقاء لنا ببيروت منذ نحو عامين، وكان هارتموت آنذاك مشاركا في تحكيم إحدى الجوائز المخصّصة للرواية العربيّة، قال لي إنّ ما وصله، من روايات ذلك العام، قارب المئتين أو جاوزهما. وذلك، فيما رحت أحسب، يحتاج منه إلى أن يضيف رفّاً جديدا إلى مكتبته، ينصبه هذه المرّة في المدخل الموصل إلى غرفة الكتب».
في لبنان كان هناك سؤال حاضر كان على الروائي، في كلّ حوار يُجرى معه، أن يجيب عليه: بماذا تفسّر هذا الإقبال على كتابة الرواية؟
زمن الشعر أم الرواية؟
في أحيان كان الروائيّ يجيب بأن ذلك عائد إلى التغيّرات المهولة التي أتت بها الحرب، أو يجيب بأنّ الشعر الذي سبق زمنُه زمنَ الرواية ظلّ معبّرا عن انتصاريّة لم تكسّرها تماما الهزائم الفرديّة والجماعيّة. أمّا الحرب، أو الحروب، فهي القادرة وحدها على أن تجعل لكلّ فرد تاريخا خاصّا به، أو رواية خاصّة به، وإنّ أيّ كلام يُكتب، مستقى من الحرب، يحمل شيئا من قوّتها.
وأضاف عن صلة الرواية بالحرب، في لبنان وفي البلدان التي عرفت الحروبَ مثله، أو جاورت الحروب، أو خافت من انتقال عدواها إليها... إلخ. ودائما، حتى فيما كنت أجيب أنا شخصيّا الإجابات إيّاها، كان شيء فيّ يقول لي: إنّك تتفلسف يا حسن، وإنّك تُعقّد الأمور إلى حدّ أنّك لن تستطيع فكّ عقدها حتى بينك وبين نفسك. ذاك أنّ هناك أشياء، بالنظر إلى احتمال أن يجاب عليها بما لا يمكن ضبطه من الكلام، ينبغي لها أن تظلّ بلا جواب. أما دليلي إلى ذلك فاعتباري، على الدوام، أنّ جوابا مثل: «إنّها موضة، الرواية هي الآن على الموضة، وليس الشعر». هذا الجواب، على عموميّته، أقرب إلى إصابة الحقيقة من «التفلسف» المذكورة بعض صياغاته أعلاه.
ذاك أنّ الرواية التي أعقبت زمن الثمانينيات، وهو ما أحسبه زمن ابتداء مغالبتها الفنون الكتابيّة الأخرى، لم تفتأ توسع من مجالاتها وعوالمها ذاهبة إلى الكلام عن كلّ شيء. وقد تعدّدت التصنيفات التي سعت إلى تقسيم الروايات الصادرة تبعا لموضوعاتها، وهذه راوحت بين الحرب وعمليّات الإرهاب والهجرة إلى بلدان الغربة والإقامة فيها، كذلك إلى الشكوى من ضيق الحياة والموانع التي تعترض عيشها في أغلب البلدان. ثم، تفريعا عن ذلك، الأشكال المتعدّدة للاحتجاج السياسي والاجتماعي والشخصي والديني.
وهذا في أيّ حال، قد يكون علامة عافية ثقافية. ذاك أننا لطالما أعلنّا احتجاجا على الفترات التي سبقت، والتي كان العالم فيها قد ضاق إلى حدّ حبسه في السياسة وحدها.
وراح داوود يتذكر كما يقول كيف كنّا، وعلى مدى سنوات طويلة، نرى العالم ضيّقا إذا ما أوكل وصفه إلى الأدب. كان كلّ ما يُكتب في سنوات السبعينيات وبعض الثمانينيات لا يخرج عن التحدّي وردّ التحدّي بالدعوة إلى المواجهة والقتال. وإذ انتبهنا إلى أنّنا جعلنا للعالم جهة واحدة فقط، وأنّ واحدنا لا يأبه بما يشاهده حوله، إذا ما تلفّت حوله، رأينا أنّنا، لابدّ، في فاصل خاطئ من الزمن. أذكر مثلا كيف حُمّلت الكتابة مهمّة تصويب العالم وتصحيح فهمنا له. من قبيل ذلك أن تسعى رواية إلى تصنيف العلاقات في سوق الحميديّة الدمشقي على قاعدة الصراع الطبقي الكلاسيكي. كما أذكر أيضا كيف أنّنا، نحن قارئي الروايات آنذاك، أو مشاهدي أفلام السينما، كنّا نردّ شخصيات نجيب محفوظ ويوسف شاهين إلى ما تجهله هذه الشخصيّات عن نفسها، وما يجهله عنها كاتبها أيضا، مصنّفينها على أقيسة جاهزة في الرأس. كما أذكر أيضا كيف كان الاتهام بالانعزال والعدمّية جاهزا ليلقى على من يخطر له أن يحيد عن الإنشاد الجماعي لتلك الجوقة الكبيرة الواحدة. هذا وكان صديق لي آنذاك قد كتب منتقدا مؤتمرا للأطبّاء العرب انعقد في بيروت خلال تلك السنوات وأصدر بيانا في ختام أعماله داعيا فيه إلى رفض التطبيع وإدانة الداعين... إلخ. «لكن أين الكلام عن الصحّة العربيّة، عن أجسام العرب؟» كتب الصديق آنذاك. لكن إلى أين خرجنا من عالم الوجهة الواحدة ذاك؟
وأضاف داوود في الأدب، ربما كان مفيدا فقدان البوصلة. الروايات المئتان التي تسلّمها هارتموت في تلك السنة الواحدة، وكذلك الروايات التي ربما تقاربها عددا في السنة التالية (التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافيّة قدّر عدد الروايات الصادرة في العام 2009 بثلاثمئة رواية)، هذه الروايات لا أحسبها ذهبت كلّها إلى وجهة واحدة. بل إنّني أرى أنّها لم تبلغ هذا العدد لو لم تحدث تلك التغيّرات التي قسّمت المكان الواحد قِطعا وبدّلت خرائط الأمكنة مبعدة ما كان هنا قريبا ومُدنية ما كان بعيدا. لم يعد «المنفى» قيمة أدبيّة للمحتجّين الرومانسيين بل صار المكان العادي لإقامة الملتجئين إليه (إذ صار يمكن إفراد باب لرواية الهجرة بمقابل أبواب الرواية الأخرى). أما الجموعة التي بقيت هنا، في بلدانها، فقد تغيّرت تشكيلاتها عن الجموع التي سبقتها. كما تبدّل التعاقب المعهود للزمن فصار الماضي في الأمام بدل أن يكون في الخلف، أو أنّه صار في الحاضر، أي في الفعل اليومي وليس في الذاكرة وحدها.
واستدرك داوود لم يعد الزمن هيّنا مثلما كان لفؤاد التكرلي مثلا، الذي كان يعرف في أيّ خطّ عليه أن يسير لينجو العراق من الدكتاتوريّة. كما لم يعد الظلم معلوما مصدره، مثلما كان لسعيد مهران بطل رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ. وأيضا لم يعد العالم شرقا وغربا خالصين على غرار ما صوّره الطيّب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولا مستلبا استلابا هيّنا كما في رواية «اللجنة» لصنع الله ابراهيم. في عودة إلى الكلام عن جهة النظر الواحدة باتت الصورة أكثر تشوّشا وتعقّدا. من كانوا ناظرين معا إلى ما ظنّوه يقينهم الواحد باتوا مديرين ظهورهم بعضهم لبعض، بل إنّ ذلك أصاب الواحد نفسه إذ بات لا يعرف أين يقف من الجهات المتفرّقة المتعاكسة في داخله.
التصنيفات المشار إليها في ما سبق، مقسّمة الرواية العربيّة إلى ما يشبه الأقانيم: أقنوم رواية الحرب، أقنوم رواية المهاجر، أقنوم الحياة العاطفية أو الجنسيّة... إلخ، هذه التصنيفات تسعى إلى أن تردّ ذلك الخليط إلى تصنيف مدرسي عادي. ربما احتجّ كاتب مثل علي المقري، على سبيل المثال، من عدم ذكر روايته في ذلك التصنيف (وهنا آخذ هذه الرواية مثالا على فيضان الرواية العربية عن محاولات جمعها تحت عناوين). وما يُضاعف من صعوبة احتواء الروايات المئتين، أو الثلاثمئة، في عناوين هو غياب الأثر الروائي المستلَهم من روايات العالم، على ما كان دأب الرواية العربية منذ ابتدائها. الآن لم تعد الكتابة عندنا متأثّرة بتيار غربي أو ياباني أو أميركي لاتيني. لم نعد بلزاكيّين كما كنّا في زمن لنا سبق، ولا همنغوايّين ولا متّبعين خطى كاواباتا أو خطى الواقعيّة الاشتراكيّة أو الواقعيّة السحريّة، كما أنّ الجيل الذي حذا حذو ميلان كونديرا في كتابة الحياة انطلاقا من أفكار تألّفت عنها نسي مُلهمَه أو كاد. ما يكتب الآن هو روايات بلا أساتذة ملهمِين. ربّما كان واحدا من أسباب ذلك هو الغياب عن الثقافة، أي عن الحاجة إلى المعرفة، أي، وعلى نحو أقلّ عمومية، الانصراف عن القراءة، تلك التي كانت الأجيال السابقة ترى أنّ القدْر الذي قد يبلغه الكاتب في كتابته هو ذاته القدْر الذي يتحصّل له منها (من القراءة)
كيف سبقني كل هؤلاء
ورأى داوود أنّ الكثير ممّا يكتب الآن من روايات يستلهم الفطرة ورغبة الكاتب في أن يقول شيئا يحبّ أن يقوله. طبعا، على واحدنا هنا أن يتريّث في إطلاق حكمه على هذه الظاهرة التي كان يمكن لمثقف سابق أن يرى فيها انفلات الكتابة من عقالها. ثمّ ان الروايات غير الآتية من التثقّف بالأدب، أو غير المستولدة من المعرفة بفنّ الرواية، باتت، على ما رأينا في هذه السنوات الأخيرة، تجد قرّاء متحمّسين لها. بل إنّنا رأينا كيف أنّ الكتب التي تتوالى طبعاتها ليست هي الكتب «المبدعة» على ما يتّفق المثقّفون. بات المهم الآن اختراع الفكرة، كما قد يقول وافد جديد إلى الكتابة، مقرّبا الكتابة هكذا من اللغة التي يستخدمها مؤلّفو كلام الأغنيات أو منظّمو حفلات المغنّين. لكن بعض هذه الأفكار المخترَعة أصاب. رحت أضحك وحدي فيما أنا أقرأ كتاب «تاكسي» لخالد الخميسي، وهو الكتاب الذي، على غلافه، قرأت أنّ النسخة التي بين يديّ هي من طبعته السابعة عشرة. وقد قلت إنّني تأخّرت في الاهتداء إلى الكتاب إذ قد سبقني إليه قارئو كلّ تلك الطبعات جميعا.
لكن، في الوقت الذي واصل هذا الكتاب، وكتب أخرى تماثله، إصدار الطبعات، تواصل، في الوقت نفسه، الكلام عن ضآلة مستواه الكتابي. مع كتب الأكثر مبيعا بدا كما لو أنّ جماعات الأدب، المخلصة له، أو لقواعده، أو للاهوته، قد جرى اختراقها ممن كانوا خارج حلقاتها. ذلك حصل في حقول فنّية عديدة أيضا، وهنا نتذكّر موجات المغنّين التي ابتدأها، أو واصلها ربما، شعبان عبدالرحيم مثلا، وهنا أيضا أتذكّر الأغنيات اللبنانية الراهنة التي لا تبثّ ميكروفونات المطاعم وحفلات الزفاف سواها، عائدة بالغرام إلى أيام العضلات والسكاكين وتفتيل الشوارب ورجال المراجل.
يجهد الأدب الروائيّ الآن في سعيه المحافظة على جمهوره القليل. أما أصحابه، الكتّاب، فبات عليهم أن يزيدوا تعبدّهم إذ هناك أعمال يصعب ألا توصف بكونها روايات، على رغم خلوّها من قواعد هذا الفنّ، رائجة وتترجم إلى لغات العالم ويباع منها، هنا وهناك، مئات ألوف النسخ. مرّة أخرى يثبت القرّاء أنّ ما يطلبونه هو السهولة المسليّة لكن الفاضحة، أن يكون ما يقرأونه شكلا مكتوبا من أشكال النميمة التي يحفّزها الفضول والحشريّة.
لا أحد يقرأ كل هذه الروايات
وحول اتصال الرواية بالنقد أشار داوود إلى أن الروايات «الفائزة» تواصل تقدّمها غير آبهة بالنقد الذي يتّهمها بقلّة فنّيتها وابتذالها لبنى العالم الروائي. إنّها الروايات الفائزة، سواء في الإقبال الذي تشهده، أو في نيلها الجوائز التي غيّر دخولها المقتحم كلّ المعايير السابقة للحكم على عمل روائي. في التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافيّة، المشار عنه أعلاه والذي صدر منذ أيام قليلة دارسا اتجاهات الثقافة العربية لسنة 2009، لم يذهب التقييم الخاص بالرواية إلى أبعد من الأخبار التي جرى تناقلها ونشرها عن جائزة بوكر وجائزة الجامعة الأميركيّة في القاهرة، هذا مع العلم أنّ إصدارات كثيرة لا تقلّ جدّية آثرت البقاء خارج نطاق التسليم للجان التحكيم بقدرتهم على الاختيار الموضوعي أو الحرّ.
إنّنا نشهد فيضا متّصلا من الروايات تصدر بما يقرب من رواية عربيّة كلّ يوم، تبعا لتقدير تقرير التنمية الثقافيّة. لا أحسب أنّ أحدا يمكنه أن يدلي برأي يكون صحيحا في الاتجاهات التي تتوزّع بينها الروايات، إذ لا أحسب أنّ أحداً يمكنه أن يقرأ الروايات الثلاثمئة أو المئتين، حتى أولئك الذين طلب منهم التحكيم بينها. ما يمكن أن يقوم به واحدنا هو تكوين أفكار حول ما قرأه، قد يصيب بعضها وقد يخطئ بعضها، والأرجح أنّها لن تثبت على قدمين في السجال الدائر حول ما هي الرواية، طالما أنّ لكلّ رأي مؤيديه والرافضين له، شأن ما يفعل الناس في انقسامهم حول السياسة وأحزابها.
العدد 3072 - الأربعاء 02 فبراير 2011م الموافق 28 صفر 1432هـ