تلقيت مكالمة من الصديق الناقد أحمد المناعي بعد أن لفت نظره في الحلقة الماضية ما نُشر هنا بشأن الكتاب الخاص بحساب أوزان اللؤلؤ، أو حساب «الجو» كما كان يطلق عليه في زمن اللؤلؤ، وكنا قد نشرناه ضمن الحلقة السابقة من هذه السلسلة. وجرى نقاش بيننا خلالها حول هذا الكتاب الذي كان يستخدمه أحمد بن خميس في تجارة اللؤلؤ في عصره والموسوم بـ «مجموع الدفترين المسمي بمرج البحرين» طبعة العام 1886 في الهند. وقد أشار المناعي أثناء النقاش إلى أن ذاك الكتاب المرشد لتجار اللؤلؤ في الخليج والهند مؤلفه هو تاجر اللؤلؤ البحريني سلطان بن محمد بن على المناعي، وقد كتب مقدمته المرحوم أبو بكر بن عبدالرحمن بن شهاب الدين العلوي الحسيني الحضرمي ويحوي 340 صفحة. وعندما بحثت عن الموضوع في مدونة المنانعة وجدت فعلاً أن أحد أفراد عائلة المناعي- محمد بن عبدالله بن عيسي المناعي- قام بإعادة طباعة نفس الكتاب وكتب في مقدمته « لم نكن طوال أكثر من مئتي عام، إلا ونحن- يقصد تجار اللؤلؤ من عائلة المناعي- مشاركين في هذه الحياة، حياة مجتمع اللؤلؤ، مجتمع الخليج، بسرائه وضرائه، وبعد كل تلك المراحل، لا يزال للؤلؤ بهجته وسحره، بل وصارت لندرته قيمة، ولا يزال لعشاقه وجود... وأي وجود وهذه شواهد الكلم تشهد على جماله».
وللعلم فإن لفظة «الجو» بالجيم المعطشة، المستخدمة في حساب وزن اللؤلؤ، هي في الأساس كلمة فارسية الأصل. وقد تم استخدام كتاب سلطان المناعي المذكور من قبل الشيخ صالح بن صالح عطية في تعليم حساب «الجو» في بندر لنجه في تلك الفترة. والكتاب بذلك يعتبر من أقدم الكتب التي وصلت إلينا، كما ذكر مؤرخ اللؤلؤ الكويتي سيف بن مزوق الشملان، وأشار إلى أن لديه نسخة منه كما هي النسخة التي لدى أحفاد بن خميس حالياً. وقد أورد المؤلف في المقدمة قصيدتين في أحوال الغوص ومخاطره وفي أوزان اللؤلؤ وتصنيفه وقد نشرنا جزءاً معيناً منها في العدد السابق.
ونحن نمر على الحياة الاجتماعية والعائلية للحاج أحمد بن خميس كان لابد وأن نقف في محطة حكايات متفرقة جرت في عصره، شارك فيها أو كان هو محورها، لتكتمل جوانب الصورة التي ما برحنا نرسمها منذ الخط الأول في هذه اللوحة الواقعية.
من أوائل المقرئين العراقيين الذين استقدمهم بن خميس للقراءة في حسينيته بالسنابس كان، كما يخبرنا موسي بن خميس - هو ملا خضير. وكانت له شعبية واسعة في البحرين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بحيث كانت تتجمع عدة مآتم في المنامة للتعاون في طلبه ودفع مكافأته. ولكن لأن بن خميس كان وضعه المادي يسمح له باستقدامه منفرداً فلم يكن يتوانى عن ذلك وعن دفع أي مبلغ لهذا القارئ. كذلك من القراء الذين توافدوا على الحسينية: سيد ياسين و سيد جاسم السماوي، وكلاهما من العراق وملا حسن بن منصور من الديه بالبحرين وهو أخ أحمد بن منصور الصديق المقرب جداً لأحمد بن خميس.
- من ذكريات الحاج على بن عيسي بن خميس عن عمه أحمد بن خميس يقول: «كان مثل الصديق بالنسبة لي - رغم أنه عمي ويكبرني سناً - لم أفارقه إلا أحيانا، حتى أننا كنا نذهب سوياً للاستحمام في «عين الدار» وتلك هي أجمل الأيام التي قضيتها معه. كما كنت اذهب معه للطواشة وأذكر كان معه ولده حسن حيث نقوم بالطواشة في سفينته المسماة «بومبي» وهو «بوم» للتنقل بين سفن الغوص في البحر. وذات يوم خرجنا للطواشة بين سفن الغوص البحرينية ومعنا رجل من تاروت اسمه على بن أحمد آل حسين وأيضاً حسن ابن أحمد؛ لنشتري اللؤلؤ من النواخذة في الهيرات. كان البوم من شراع لعدم توافر المكائن بكثرة ذلك الزمان، ولم يكن هناك لنج بخاري للطواشة إلا عند بيت السادة من الحد. إما الأكثرية فكانوا يستخدمون خشب (سفن) من شراع تلعب به الرياح كيفما تريد. خطفنا من المنامة العصر ووصلنا «رأس تنورة» في الشرقية وطلعنا من هناك وخطفنا وكنت أرى بيد حجي أحمد منظار مكبر يراقب به سفن الغوص ويبحث عنها في البحر. فرأى محمل يغوص لوحده بعيداً عن غيره وقد اقترب منه جالبوت به طواشون للتباحث مع النوخذة حول محصوله من اللؤلؤ لشرائه. فقال أحمد بن خميس: هؤلاء طواشة آخرون وفي عرفنا أنه لا يجب أن ندخل مع الآخرين في نفس الوقت للمزايدة على الأسعار احتراماً لأصول المهنة، فلننتظر حتى ينتهوا ثم نذهب لمفاوضة النوخذة بعد فراغه منهم، فقال اطرحوا هنا حتى ينتهوا. وبقينا راكدين فعلاً ننتظر ما ستسفر عنه مباحثات الآخرين. وبمجرد أن فارقوا دون أن يشتروا شيئاً كما يبدو؛ يممنا شطرهم كما أمرنا فقال حجي أحمد قائلاً: انزلوا ببانوش صغير وبسرعة لنذهب للمحمل الكبير الذي به النوخذة واللؤلؤ. وعرف النوخذة البحريني أن القادم هو بن خميس فرحبوا به، قال لهم بن خميس: ماذا عندكم؟ قالوا: عندنا حصباة، قال: بكم تريدونها؟ قالوا: نريدها بمبلغ 200 روبية. قال بن خميس يختبر الوضع: الطواش الذي سبقني بكم سعّرها؟ قالوا: بنفس المبلغ. فقال، كي يكسب الصفقة سريعاً لأنه يعلم ما هي الحصباة التي بين أيديهم بعد أن نظر إليها ملياً، أنا سأضيف لها 50 روبية ليصبح المبلغ 250 روبية للحصباة. هذا وأنا أسمع كل ما يدور وكنت أقول في نفسي لله درك يا عم. وتعادلوا معهم على هذا المبلغ، ثم خطفنا مرة أخرى إلى تاروت حيث نزل على بن أحمد. وكان قد لحق بنا لنج السادة وساروا معنا إلى المنطقة الشرقية. وهناك سألوا بن خميس عن السعر الذي تم به شراء الحصباة من النوخذة، فقال: بمبلغ 250 روبية، فقالوا: حلال عليك، وكنا قد سبقناك للبحث عن المحمل ولكننا لم نعثر عليه لأنه كان قد أرخى شراعه والجو كانت به سحب والوقت اقترب من المساء، ولكنه هو رزق لك وليس لنا، وفقك الله له وبه. و«تقهووا» عندنا ورحلوا للبحرين. هكذا كانت أخلاق أهل الغوص في البحرين قديماً ويا ريتها استمرت. المهم ذهبنا بعدها للقطيف ثم عدنا للبحرين.
- ومن ذكرياتي مع بن خميس أيضاً أنه عندما ذهب إلى الهند ذات مرة، لبيع اللؤلؤ في سوق بومبي؛ سكن مع مجموعة من الهنود وهو كان لا يترك صلاة الليل بتاتاً. وفي ليلة المبيت الأولى سمع الهنود صوته في قيام الليل فاستغربوا وكانوا يقولون إن بن خميس يصرخ في الليل ويردد كلام وتمتمات لا يفهمون معناها، فهل هو مريض؟ فقال لهم زملائه من تجار اللؤلؤ هناك أن هذا ليس صراخ ولا الرجل بمريض بل هو يصلي الليل دائماً وهذه طقوس صلاة الليل من أدعية وركعات وسجود.
- كذلك كان بلغريف عندما يزور القرى في حملاته وزياراته الدورية يحرص على طلب (الكنار= النبق) من دالية حجي أحمد بن خميس بالذات لحلاوة طعمه الذي تطرحه.
- وكانت له علاقة طيبه بصديقه رجل التجارة عبدالنبي بوشهري وعندما يزوره في بيته وداليته أيضا يفضل أكل (الكنار) من الدالية لحلاوة طعمه وعذوبته. وكان بن خميس يوصيني بأن ابقي على (سدرة الكنار) حاملة للثمر حتى موعد زيارة الحاج عبدالنبي بوشهري. ولكن أولاد عمي الصغار يأتون ويترجوني بأن أتركهم يأكلون قليلاً من تلك (السدرة) قبل حضور بوشهري، وكانوا يقولون: لأن عمك لن يدعنا نأكل من الشجرة في حضور الحاج عبدالنبي. فيرق قلبي وأحقق لهم ما يريدون عطفاً عليهم واركب (السدرة) وانزل منها قليلاً من (الكنار) فأحس بي عمي بن خميس وكان عندما ينزل السلم الخشبي بدون حذاء في البيت الذي به الدالية لا نسمع صوته، ولسوء حظي اكتشفني عمي وقال: أنا أؤمنك على (السدرة) وأنت تحت ثمرها للأولاد من وراي، انزل من على السدرة. فخفت وقلت له: لن انزل أخاف أن تضربني، قال: لا تخف انزل ولن أضربك. ونزلت وكان الأولاد قد هربوا عني بعد أن «ورطوني في هذه السالفة»، لكن الحمد لله فقد سامحني الحجي رحمه الله».
يحكي كل من جميل وعبد الأمير بن خميس هذه الحكاية عن جدهما أحمد بن خميس وصديقه أحمد بن منصور. «كان الحاج أحمد بن منصور يذهب مع أحمد بن خميس - كلٌ على حماره - لمشاوريهما في المنامة سوياً من أجل قضاء بعض الحاجات متخذين من الساحل البحري، المحاذي لامتداد شارع البديع القديم الذي تتخلله المزارع، طريقاً لهما. وكان كلا التاجرين يملكان حمارين من أجمل الحمير وأقواها في تلك النواحي. وبما أن بعض أهل الطمع والجشع من الجبابرة قد طمعوا ليس بأموال بن خميس وثروته وأملاكه فقط؛ بل حتى بحماره وحمار صديقه بن منصور. ولطالما منعهما من الإقدام على تنفيذ مطامعهم وجود الرجل القوي وصاحب الإرادة الفولاذية التي لا تنصهر - بن خميس - فلم يستطيعوا نهب أي من الحمارين. وذات يوم مر بن منصور على بن خميس ليذهبا سوياً لمشوارهما ولكن بن خميس كان مريضاً. فذهب بن منصور لوحده وهنا اقتنص أحد رجال المتنفذين الفرصة لعدم وجود بن خميس مع صديقه، وكان يراقب الطريق، فهجم عليه مع عبيده ونهبوا حمار بن منصور منه عنوة، مع أنه حاول مقاومتهم لكنه لم يفلح في ذلك، وتركوه يعود راجلاً دون مطيته. وبسبب تلك الحادثة الغريبة، غضب أحمد بن منصور واقسم بعدها ألا يبقى في البحرين وقال: «العيون التي تبقى في البلد تعمي». وقام بنقل تجارته وعياله كلها من البحرين إلى الهند، فخسرت البلد واحداً من كبار تجارها وأعيانها للأبد وكان من ذوي الثقل الاقتصادي أو بحساب اليوم يعتبر مليونيراً. وقد استوطن بن منصور «بومبي» وتزوج هناك وأنجب أبناءه عباس وحسين ومحمد ونصرة. كما أسس حسينية وتنامت تجارته لدرجة أن من زاره في أواخر حياته في «بومبي» قالوا إنهم شاهدوا عنده سيارة «رولز رويس» وهي لا يملكها ذاك الوقت إلا أصحاب الثروة الكبيرة. حتى سيد محمود العلوي عندما ذهب يدرس في الهند عاش عند بن منصور وأصبح الصديقان على علاقة متينة لآخر حياة بن منصور في الهند. والذي بقي من أولاد بن منصور - وهو محمد علي - رجع إلى البحرين العام 1975 فبادر سيد محمود العلوي بمساعدته وفاءً لوالده فاستخرج له جوازاً بحرينياً وعمل بجد واجتهاد في شركة (بتلكو)، ونحن نسميه حتى اليوم «خالنه محمد على الهندي».
الحلقة القادمة: أحمد بن خميس
بين «نارين» قبل الرحيل.
العدد 3072 - الأربعاء 02 فبراير 2011م الموافق 28 صفر 1432هـ
شكرا على هذه الحلقات الجميلة
شكرا لك أخي محمد حميد على هذه الحلقات الجميلة التي أرجعتنا لحياة الآباء والاجداد.
تحياتي لك.