من كان يتخيل قبل شهر أن يعود الشيخ راشد الغنوشي حاملاً كتبه وأوراقه وينضم إلى اهله واحبابه في تونس بعد غياب قسري دام 20 عاماً. ومن كان يتخيل قبل أسبوع ان الشعب المصري سيعبر حاجز الخوف وتأخذ مصر باستعادة شبابها وتجدد حياتها وحيويتها بعد ثلاثة عقود من السكينة والصمت.
هذا العالم الافتراضي ليس متخيلاً وانما هو نتاج الانقطاع بين السلطة والناس. وهذا العالم المتخيل ليس افتراضياً وليس نتاج التلفزة والفضائيات والانترنت والتويتر وفيس بوك وانما هو ردة فعل على غياب المصالحة (العقد السياسي) بين الدولة والمجتمع.
العالم العربي بدأ فعلاً يتغير وهو أخذ يدخل حقبة مغايرة لمرحلة استنفدت أغراضها وباتت عاجزة عن التكيف مع المتحولات وتلك التراكمات الناجمة عن القهر وتسلط النخبة (الخاصة) على الأهل. وما حصل في تونس ومصر ليس نتاج لحظة وإنما هبة شعبية تطمح إلى إعادة انتاج سلطة غير منقطعة عن الناس.
بعد تونس ومصر يمكن القول ان هناك بداية لزمن عربي جديد يضع حداً لمقولات «نعم إلى الأبد» و«جمهوريات التوريث» و«جمهوريات التجديد والتمديد وإعادة التجديد والتمديد». وبداية القطع تحتاج دائماً إلى قوة صادمة تكسر حاجز الخوف وتخترق سلطة تأسست على قهر نخبة قررت مصادرة حق الناس في القول والعمل والتداول.
القوة الصادمة هي البداية وبعدها تأتي الموجات البشرية وما تحمله من رؤية حالمة بالتغيير وإعادة النظام إلى مجراه الطبيعي. فالأنظمة المستبدة كانت أصلاً ضد الطبيعة وهي نجحت طوال العقود الماضية في تزييف التاريخ وتعديل القوانين وتفصيلها لتكون متناسبة مع مصالح قلة اختارت نفسها لتكون الحاكم والحكم بعيداً عن رقابة الناس.
العالم العربي لايزال في بداية الشوط، ولكن الاهم قد حصل. ومن الان يرجح ألا تقف في وجه التغيير سوى تلك الحفنة المستفيدة من عزل الدولة عن المجتمع وقطع التواصل بين السلطة والناس. وهذه الحفنة التي تعيش في حالات تردد، لأنها عاجزة عن فهم ما يحصل، يمكن ان تشتري الوقت وتكسب فترة سماح أو تتمرد على أهلها مستخدمة أدوات القوة ولكنها منذ بداية الشوط أخذت بالتراجع النسبي والمدروس والمنظم استجابة لواقع لم يعد بالإمكان تجاهله.
أهم ما بدأت تعترف به النخبة العسكرية المختارة بعد فوات الأوان أنها أخطأت في الحسابات ولم تدرك مستوى سخط الشارع وغضب الناس. والاعتراف الخجول بالواقع يعتبر في حد ذاته مكسباً للعامة لأنه يشكل خطوة في سياق زمني بدأ يعترف بضرورة تداول السلطة. فهذه الحفنة المستفيدة أسست قوتها على مصادرة السلطة ومنع تداولها وحصرها في نخبة مختارة يتم تعيينها من الحاكم. وأدى الغاء التداول إلى انقطاع قنوات الاتصال بين الدولة والمجتمع وعطل إمكانات المصالحة بين السلطة والأهل.
مسألة التداول تشكل حجر زاوية في تاريخ تطور الدولة وتحسن وظائفها. فالتداول يجدد شباب الدولة بعد كل فترة وهو يعطي حيوية للسلطة ويرفدها بالحياة ولا يقطع خطوط التواصل مع الأجيال. وتعطيل التداول يعزل الدولة عن الجماعة الأهلية ويجفف مع الأيام الطوال منابع الحياة ويقطع أواصر العلاقة بين النخبة الحاكمة والناس.
انفجار الشارع وهبة الجماهير وخروج الناس إلى الساحات هي في النهاية نتاج ذلك التراكم من حرمان المجتمع من حق الاختيار والتداول وتحمل مسئولية الحكم. فالدولة حين تعطل قنوات تداول السلطة تكون قد ساهمت في منع تجديد شبابها وتدمير جسور التواصل مع المجتمع.
هذا الأمر (الانقطاع بين الدولة والمجتمع) الذي شهده العالم العربي وفر بعض الأمان والهدوء والاستقرار لفئة اختارت نفسها للحكم خلال العقود الأربعة الماضية. وبسبب استرخاء الناس وقبولهم بالأمر واستسلام جيل الخمسينات والستينات لواقع الاستبداد تشجعت النخبة على التمديد والتجديد وإعادة التمديد والتجديد وصولاً إلى التوريث وإكراه الناس على القول «نعم إلى الأبد».
جيل الخمسينات والستينات الذي انتفض ضد الاستعمار ونكبة فلسطين وأيد ثورة المليون في الجزائر وصل إلى حال من اليأس والتراجع حين استغلت النخب العسكرية حالات الاحتجاج وبدأت بمصادرتها بذريعة وضع حد للفوضى وعدم الاستقرار. فرض انقلاب النخبة على الأهل سلطات مستبدة تحكمت بمفاصل الدولة وعزلتها عن الناس خلال السبعينات والثمانينات والتسعينات والعقد الأول من القرن الجاري. وادى مفهوم العزل إلى اسقاط العقد السياسي ومبدأ المصالحة بين الدولة والمجتمع فترة تراوحت بين 30 و40 عاماً إلى أن انفجر الوضع واندفع الناس من خلف الحصون والحواجز والسواتر والموانع.
الآن خرج الجيل المكبوت إلى الشارع ليكسر حاجز الخوف ويخترق جدار الصوت ويتخطى المحرمات والمقدسات والممنوعات ليضع مجرى العلاقة بين السلطة والناس على محك التجربة والامتحان. فهل تتراجع النخبة وتسارع إلى انقاذ الدولة من الانهيار أم تتمسك بالسلطة وتستخدمها لمواجهة الحق بتداول النظام وإعادة قانون «نعم ولا» إلى إطاره الطبيعي.
الجيل الحالي يختلف عن ذلك الذي هرم وتعب واستكان في الخمسينات والستينات ومطلع السبعينات. فالهبة التي شهدتها تونس وتشهدها مصر ويرجح ان تنتقل إلى ساحات عربية أخرى لا ترفع شعارات الوحدة والتحرير والتصدي للاستعمار والصهيونية كما كان الحال في النصف الثاني من القرن العشرين. الشعارات مغايرة ومتخالفة تؤكد على حق تداول السلطة وإعادة النظام إلى مجراه الطبيعي ومنع احتكار النخبة للثروة والقوة وإنهاء عهد الاستبداد.
هذا الجديد في سياق التحول يشكل بحد ذاته خطوة حاسمة للتغيير لانه يبدأ نشاطه من نقطة تستأنف عملية التداول لسلطة تمت مصادرتها قبل ثلاثة وأربعة عقود. ومجرد استعادة الحق الطبيعي لمبدأ التداول يمكن القول ان العالم العربي أخذ يستعيد شبابه ويسترد حياته وحيويته بعد انقطاع قسري عن زمن يحتاج دائماً إلى عناصر تمده بالغذاء للاستمرار والتطور.
المشاهد التي نراها في تونس ومصر ليست متخيلة ولا هي صناعة عالم افتراضي بل هي نتاج واقع انفجر فجأة ضد انقلاب النخبة على الأهل وانقطاع السلطة عن الناس. يقظة المجتمع بعد سبات يحتاج فعلاً إلى وقت لاكتشاف أدوات التخلص من القهر والخلاص من احتكار حفنة لمصادر الثروة والقوة. لذلك لا يتوقع أن تعطي الهبات مفعولها المباشر ولكنها لاشك تعتبر بداية تحول يمكن أن تؤدي إلى إعادة الاعتبار لمفهوم التداول ومبدأ العقد السياسي (المصالحة) بين الدولة والمجتمع. وحين تتحقق المصالحة بين سلطة متشددة ومجتمع معزول يبدأ العقد السياسي يأخذ مجراه الطبيعي باتجاه التداول خطوة خطوة.
في الطور الحالي من الشوط الأول يرجح أن تشهد تونس ومصر فترة مصالحة (هدنة مؤقتة وقلقة) تؤسس محطة انتقالية رمادية تجمع بين سلطة أقل علمانية وعسكرية وأكثر إسلامية وانفتاحاً (النموذج التركي). بعد هذا الطور الأولي تصبح احتمالات التغيير أسهل في منعطفاتها ومضاعفاتها، وذلك لسبب بسيط وهو أن الناس اخترقت حاجز الخوف وقررت العبور من ظلمة «نعم إلى الأبد» إلى نور الحرية وتداول السلطة.
الشيخ راشد عاد إلى تونس والناس اجتمعت في ميدان التحرير، وهذا الحلم كان من الصعب تخيله قبل شهر من الآن. وحين يصبح العالم الافتراضي حقيقة واقعة تتحرك آليات إنتاج السياسة على الأرض وينفتح باب التغيير على المستقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3072 - الأربعاء 02 فبراير 2011م الموافق 28 صفر 1432هـ