في أدبيات الفكر الثوري برز مفهوم الثورة الدائمة وعبر عنه الزعيم الشيوعي الروسي تروتسكي الذي انتهى به المطاف بعد سنوات قلائل من بداية الثورة الروسية العام 1917م، إلى الهروب إلى أدغال أمريكا اللاتينية، وانتصر الجناح الثوري العقلاني بقيادة فلاديمير إيليتش لينين (1870م-1924م). ولكن للأسف واجه لينين نفس الحالة التي واجهها زعيمان بارزان في دول العالم الثالث وهما سعد زغلول في مصر (1859 - 1927م)، ومحمد علي جناح في الباكستان (1876 - 1948م) وهو وفاتهما بعد سنوات قلائل من تحقق نقطة البداية في طموحاتهما، وهو استقلال مصر العام 1922م، ووضع دستور 1923م، ثم وفاة سعد زغلول العام 1927م. أما محمد علي جناح، فواجه نفس المصير الرباني بالوفاة بعد فترة وجيزة من قيام دولة باكستان الإسلامية إثر تقسيم شبه القارة الهندية.
القاسم المشترك بين سعد زغلول ومحمد علي جناح، هو إيمان كل منهما بالفكر الديمقراطي العقلاني، والمنهج الإسلامي المعتدل. لينين من ناحية أخرى، آمن بمبدأ الثورة في أرض الوطن (روسيا) كنقطة بداية لاحقاً للثورة العالمية. ومع موت محمد علي جناح، وموت سعد زغلول، وموت فلاديمير لينين، كان خلفاء كل منهم على نقيض الرائد الأول للعمل الثوري السياسي، فعجز مصطفى النحاس عن الحفاظ على وحدة حزب الوفد واعتداله وعقلانيته ونزاهته، وتعاقبت حكومات الأقلية على السلطة في مصر، بينما ظل حزب الوفد مع فترة ما بين الاستقلال حتى ثورة 1952م، في المعارضة، كما عجز خلفاء محمد علي جناح عن الحفاظ على العقلانية والاعتدال في السلوك الإسلامي أو الحفاظ على مدنية الدولة التي تحولت لنظام حكم عسكري في معظم تاريخها الحديث مع تطرف في النزعات والاتجاهات الإسلامية عدا فترات قليلة من الجرعات الديمقراطية المدنية المعتدلة.
لينين بدوره خلفه ستالين الذي حقق ثلاث سياسات وهي: الإرهاب والقمع والاستبداد من ناحية، وبناء القوة العسكرية والصناعية لروسيا من ناحية ثانية، والاحتفاظ بالثورة في وطن واحد لحين جاءته الفرصة السانحة في الحرب العالمية الثانية وما بعدها فتوسع في أوروبا الشرقية.
الزعيم الصيني ماوتسي تونغ (1893 - 1976م)، واجه موقفاً مختلفاً، فقد قاد مسيرة شعبية كاسحة هي المسيرة الكبرى عبر الأقاليم الصينية فحشد الجماهير المدنية وطور الفكر الشيوعي ليركز على الفلاحين بدلاً من العمال (البروليتاريا)، ودافع عن البراجماتية، والاعتدال والتحالف بين الحزب الشيوعي والحزب الوطني (الكومنتانج) لمواجهة الغزو والاعتداءات اليابانية، ونجح في الوصول للسلطة، وأعلن جمهورية الصين الشعبية العام 1949م، ولكنه سكر بنشوة الانتصار وانحشر في المفهوم الإيديولوجي ما أدى به إلى كوارث أعظمها ما أطلق عليه الثورة الثقافية العظمى (1966 - 1976م).
عاش ماوتسي تونغ طويلاً بعد انتصاره، فدمر كثيراً من مكاسبه حتى جاء التنين الصيني البراجماتي دنج سياو بنج (1904 - 1997م)، وهكذا حققت الصين نهضتها الرائدة والتي نقلتها لمصافّ الدول التي حققت المعجزات. ولكن التنين الصيني كان أكثر ذكاء وحكمة، فلم يبقَ في السلطة بل تنازل عنها العام 1989م، وأتاح الفرصة لخلفائه ليواصلوا مسيرتهم، وهو ظل الأب الروحي يراقب وينصح ويوجه عن بعد.
الثورات في عالمنا العربي وقادتها، افتقدوا للبعد المستقبلي، والبعد الإيديولوجي، واحترام الأجيال ودورهم وتعاقبهم، فظلوا في كراسيهم حتى أطيح بهم أو حتى أتاهم أمر الله، سواء في مشرق العالم العربي أو مغربه. أمن القادة الثوريون وأشباههم بأنهم حققوا المعجزات، وإنهم لا يمكن أن يتركوا مواقفهم حتى لا تضيع المكتسبات الثورية، وهكذا أضاعوها بأفق ضيق، ورؤية محدودة، وتواصلت الثورة الدائمة سواء من قاع المجتمعات العربية أو عبر الانقلابات العسكرية.
لماذا نقول الثورة الدائمة؟ ذلك لأنها مفهوم أصيل في الفكر الإنساني يرتبط بتعاقب الأجيال واختلاف الأزمان وتنوع الظروف. والتساؤل، هل يدرك السياسيون والمثقفون والصحفيون وغيرهم من قادة الفكر والسياسة والإعلام والاقتصاد متى يترجلون ويتركون الساحة في أمان وسلام؟ أم يظلون دائمين في ظل إنجازاتهم الحقيقية أو الوهمية ومعلوماتهم القديمة ويتحدث بعضهم كثيراً عبر الفضائيات كما لو لم يكن هناك غيرهم على الساحة السياسية أو الفكرية أو الإعلامية؟!
إن مفهوم الثورة الدائمة في الفكر السياسي يطرح مفهوماً ملازماً له، ولا يقل عنه أهمية وخطورة وقد تعرض له فريدريك هيغل (1770 - 1831م)، وكارل ماركس (1818 - 1883م)، كما تعرض له القرآن الكريم قبل ذلك بقرون، وتناوله باستفاضة ماوتسي تونغ في نظرية مفصلة عنه وهو أسلوب معالجة المتناقضات، وإن هذا الأسلوب يمكن أن يحدث نتائج عكسية، فالمتناقضات هي حقيقة من حقائق الحياة، وأطلق عليها هيغل «الفكر الديالكتيكي» وأطلق عليها الإسلام (مفهوم الدفع) بقوله تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ»، سورة البقرة، آية رقم (251). كما أطلق عليها مفهوم الغلبة الذي ورد في أول سورة الروم وعبر عنه بتحليل مستفيض العلامة عبدالرحمن بن خلدون في المقدمة.
إن المعالجة الجيدة للمتناقضات يمكن أن تحولها إلى متناقضة حميدة صحيحة وإيجابية، في حين أن المعالجة غير الصحيحة أو غير السليمة تحول المتناقضات الحميدة إلى متناقضات خبيثة إنها مثل معالجة الأورام إذا كانت في بدايتها يمكن إسعافها، وإذا تم تجاهلها تتضخم وتصبح ورماً خبيثاً ولابد من استئصاله.
إن مفهوم الثورة الدائمة ومفهوم المتناقضات والتفاعل بينهما من سنن الحياة ومن نواميس الكون ومن قوانين السياسة، وقد أدرك الفكر الرأسمالي ذلك بذكاء، ولذلك أبطل الإنجليز بفكرهم الواقعي والذكي نبوءة كارل ماركس باندلاع الثورة الشيوعية في بريطانيا، في حين أن الأباطرة الروس كانوا أكثر استبداداً وصلافة ولم يستمعوا لحكمة ليو تولستوي (1828 - 1910م) ذلك الإقطاعي الذي أحس بنبض الشعب الروسي، فقامت الثورة الشيوعية على أراضيهم وأطاحت بهم.
إن دراسة السياسة والفكر السياسي والتاريخ السياسي تعلمنا الكثير، وحبذا لو أن الناشطين السياسيين، والقادة السياسيين، والكتاب والصحافيين، قرأوا كثيراً في الفكر السياسي والتاريخ السياسي لتجنب العالم كثيراً من الكوارث والنكبات ولكن هيهات هيهات
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3068 - السبت 29 يناير 2011م الموافق 24 صفر 1432هـ