هناك لغة جديدة بدأت إدارة الولايات المتحدة باستخدامها في التعليق على الحوادث والتداعيات السياسية التي ظهرت في تونس واليمن ومصر ولبنان. فاللغة المرنة غير مألوفة في الدبلوماسية الأميركية وهي تؤشر كما ذهبت صحيفة «نيويورك تايمز» في تعليقها على خطاب الرئيس باراك أوباما بشأن ما يحصل في القاهرة. فالصحيفة قرأت الخطاب بأنه محاولة لتجاوز مرحلة سلفه جورج بوش واستراتيجية «التدخل العسكري والكلام الفارغ».
سياسة الدبلوماسية الناعمة لم تقتصر على الجانب الأميركي بل شملت أيضاً تصريحات الكثير من المسئولين في الاتحاد الأوروبي. وزيرة الخارجية الأوروبية كاثرين اشتون حضت على احترام «حق المواطنين في التظاهر سلماً دفاعاً عن حقوقهم». وطالبت الحكومة بالانصات إلى «الأصوات التي تدعو إلى الاحترام لحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية». كذلك دعا وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ إلى استماع الحكومة «لهموم المتظاهرين واحترام حرية التجمع والتعبير عن الرأي»... و«الاستجابة للمطالب الشرعية من أجل الإصلاح». وعلى المنوال نفسه دعا ناطق باسم الخارجية الفرنسية برنار فاليرو الحكومة المصرية إلى «احترام الحريات العامة ولاسيما حرية التعبير بشكل فعلي».
اللغة الأميركية - الأوروبية الجديدة تعكس فعلاً سياسة دبلوماسية مرنة وغير مألوفة في التعامل الدولي مع قضايا المنطقة العربية. فالبيت الأبيض حين يطالب الحكومة المصرية تجنب العنف وأن تظهر «استعداداً للاستماع إلى شعبها وإيجاد طريقة لتوسيع النقاش» فإنه يكون قد اختار طريق الوسط معتمداً مبدأ الحياد ومظهراً نية بترك الأمور تتجه طبيعياً إلى المكان الذي تنتهي إليه.
سياسة المراقبة وعدم التدخل وحض الحكومات على الحوار وتفهم الحقوق والمطالب واقتناص الفرصة للاستماع والإصلاح لا يمكن أن تأتي من دبلوماسية الفراغ والتهرب من المسئولية. فهذه السياسة الجديدة لا تظهر عادة إلا بعد قراءة متأنية ودراسة كل الأسباب والاحتمالات باعتبار أن واشنطن وبروكسيل تدركان أن المتغيرات قد تنتج حالات من العنف لا تنسجم بالضرورة مع تأمين الاستقرار وحماية المصالح الأميركية والأوروبية. لذلك يرجح أن تكون اللغة الدبلوماسية المغايرة للمألوف قد تبلورت خطوطها العامة بعد دراسة تفصيلية لكل أجزاء الصورة. ولهذا يمكن القول إن هناك معالم استراتيجية أميركية غير مرئية بدأت بالتبلور مدعومة من دول الاتحاد الأوروبي.
الاستراتيجية كما يلاحظ تقوم على ثلاثة أعمدة: الأول إعلان الحياد وعدم التدخل. الثاني الدعوة إلى الحوار ونبذ العنف. الثالث ترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي حتى تستقر في المكان الذي تختاره الناس أو السلطة. والخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذه الدبلوماسية الناعمة هي أن الولايات المتحدة (وأوروبا) أصبحت على استعداد لتقبل التغيير السلمي في حال توجه الناس إلى هذا الخيار، وهي حاضرة للتعاون من دون شروط مع البديل بغض النظر عن قناعاته الايديولوجية.
تفهم إدارة أوباما لمطالب المتظاهرين في تونس واليمن ومصر تعتبر خطوة غير مألوفة في دبلوماسية واشنطن المرنة. وهي في شكلها ومضمونها تعتبر ذكية قياساً بتلك الدبلوماسية الخشنة التي اتبعها بوش ووصفت مراراً بالغبية.
المقارنة بين خشونة بوش ونعومة أوباما لا يمكن اختزالها بالغباء والذكاء بل باختلاف الظروف وتبدل الأحوال بين العهدين. تغير معطيات وحيثيات المرحلتين يرسمان واقعياً اختلاف التوجهات. مرحلة بوش اتسمت بقيادة واشنطن لاستراتيجية الهجوم وتقويض الأنظمة عسكرياً ومن طريق التدخل والإفراط في استخدام القوة. بينما مرحلة أوباما اتسمت بقيادة واشنطن لاستراتيجية التراجع وعدم اللجوء إلى القوة العسكرية لفرض التغيير.
هذا الاختلاف بين التقدم والتراجع أو الهجوم والانسحاب لا يمكن له أن يتم من دون تداعيات بسبب نمو فراغات سياسية تتطلب حراكاً لتعبئة أمكنتها. فالتراجع سياسياً لا يقل عنفاً عن الهجوم. وتأثيرات الانسحاب (التموضع) لا يمكن ضبطها دولياً في حال تشكلت طموحات إقليمية تريد اقتناص الفرصة وكسب المواقع والفوز بقصب السباق.
هذه الانفعالات والمضاعفات كانت متوقعة ولا يمكن أن تهمل الإدارة الأميركية تداعياتها لكونها تدرك النتائج المترتبة عن كل خطوة تقدم عليها. وبهذا المعنى تبدو واشنطن غير قلقة من التطورات باعتبار أنها أصبحت في موقع يسمح لها بالتعامل الإيجابي واحتواء كل متغير يتمظهر في الساحات العربية. ومردّ هذا الاطمئنان يعود إلى عدم وجود مخاوف لدى البيت الأبيض من حصول انعكاسات دراماتيكية تقلب الطاولة على مصالحها كما كان يحصل في زمن «الحرب الباردة».
ارتياح الإدارة الأميركية وعدم قلقها وتعاطيها المرن مع التحركات مردّه الأساسي إلى عدم وجود بديل دولي أو إقليمي يمتلك القدرات أو الاستعداد لتقبل الوافد الجديد واحتواء متطلباته وتلبية حاجاته كما كان الأمر في عهد الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي والصين الثورية. انهيار الثنائية الدولية في التسعينات وعدم ظهور بدائل إقليمية مغرية وجاذبة في الإطار الإسلامي - العربي تشكل الدافع الأساس وراء الدبلوماسية الهادئة وتلك اللغة الجديدة في تعامل عواصم القرار مع الحوادث التي أخذت تعصف وتتموج في شوارع تونس والقاهرة وصنعاء.
دبلوماسية المراقبة وعدم التدخل والحض على الحوار والتفاهم يمكن أن تكون أبرز علامة في استراتيجية أوباما في السنتين الأخيرتين من رئاسته الأولى. فالبيت الأبيض أكد مراراً استعداده للانسحاب العسكري وإعادة التموضع في أفغانستان والعراق وأنه لا يفكر بارتكاب مغامرة حربية جديدة مكلفة بشرياً واقتصادياً ومالياً في وقت تعاني الولايات المتحدة من عجز موازنة بلغ السنة الماضية 1480 مليار دولار وديون فاقت 14 ألف مليار دولار.
الأزمة المالية التي فاقت التوقعات وقاربت المعدل المرسوم لها المعطوفة على بطء الانتعاش الاقتصادي وتراجع دخل الخزانة من إيرادات الضرائب بسبب الخفوضات، كلها عوامل مضافة تحدّ من قدرات واشنطن وتمنعها من التمدد الخارجي. والعوامل المالية والاقتصادية المضافة لا يمكن عزلها عن انتفاء وجود ذلك المنافس الدولي الذي يضغط بالاتجاه المعاكس.
اطمئنان الولايات المتحدة وعدم خوفها من البدائل المفترضة شجع أوباما على تطوير لغة الدبلوماسية الناعمة وسمح لإدارته بالتعامل الإيجابي مع المتغيرات باعتبار أن النتائج المتوقعة يمكن احتواء مضاعفاتها ولن تكون حاسمة، كذلك لا تستطيع أن تتخذ مواقف معادية لأميركا بحكم غياب القطب الدولي المضاد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3067 - الجمعة 28 يناير 2011م الموافق 23 صفر 1432هـ
ليست سوى .....
اقتباس:
((تفهم إدارة أوباما لمطالب المتظاهرين في تونس واليمن ومصر تعتبر خطوة غير مألوفة في دبلوماسية واشنطن "المرنة")).
كلمات حق يراد بها باطل!!