ليس هناك مواطنٌ بحرينيٌ واحدٌ مستفيدٌ من كارثة التجنيس، في الحاضر أو في المستقبل القريب أو البعيد.
وليس هناك دولةٌ في العالم تحرص على تماسكها الاجتماعي واستقرارها السياسي ومستقبلها الاقتصادي تقوم بعملية تجنيس واسعة النطاق كما يحدث عندنا في البحرين. حتى من يقفوا مع التجنيس بألسنتهم ومقالاتهم، يقرّون في مجالسهم الخاصة بأن التجنيس لن يعود على العباد والبلاد إلا بالكوارث والأضرار الفادحة.
ليس لدى البحرينيين أية نزعةٍ شوفينيةٍ ولا عنصريةٍ تجاه الشعوب الأخرى، وتلك شهادةٌ يقرّ بها القريب والبعيد، لكنهم في الوقت نفسه يرفضون أن تتحوّل قضية التجنيس إلى عملية استهبالٍ طائفي، أو ورقة ضغطٍ سياسي لمعاقبة بعض المناطق أو الفئات التي تتبنى الدعوة للتغيير والعدالة وإصلاح الأمور.
التجنيس قضيةٌ وطنيةٌ جامعةٌ بامتياز، حتى وإن لم تتنبه بعض الفئات لأضراره المستقبلية، فإن مفاعيله السلبية بدأت تظهر على السطح في صورة ضغوط متزايدة على خدمات الإسكان والصحة والتعليم والوظائف وبرامج التنمية والرعاية الاجتماعية. وهو أمرٌ طبيعي، بعد أن قفز تعدادنا السكاني فجأة فوق حاجز المليون لأول مرةٍ في التاريخ، بفضل سعار التجنيس الغريب العجيب.
كل دول الخليج المجاورة كانت تشكو من هشاشة بنيتها السكانية ما عدا البحرين، التي كانت تتمتع بنسيج اجتماعي متماسك وتركيبةٍ مستقرةٍ عبر القرون. وهي ظاهرةٌ تشهد بها أدبيات التنمية الاقتصادية وكل من كتب عن البحرين... إلا أن هذه الظاهرة أصبحت على المحك بفضل سياسة التجنيس. فلأول مرةٍ في تاريخ هذه الجزر يزيد عدد الأجانب على البحرينيين، فتنقلب المعادلة التي استمرت قرونا لصالح الأجنبي، لتؤسّس لمرحلةٍ جديدةٍ من الشعور بالغربة الجماعية في الوطن.
كتبت قبل فترةٍ عن الشعور العام بالارتياح الذي يعمّ الإمارات بسبب نزوح أعدادٍ كبيرةٍ من الأجانب، رغم ما لعبوه من دورٍ كبيرٍ في مسيرة البناء. مواقف الناس لا تصدر عن توجهاتٍ شوفينيةٍ، وإنّما تلك نزعةٌ طبيعيةٌ ناشئةٌ عن الشعور بالضياع والغربة في الوطن، سيشعر بها أي مواطن مصري أو أردني أو جزائري فيما لو تعرّضت بلده إلى سياسة تجنيسٍ مدمرٍ من هذا القبيل.
إن دول الخليج المجاورة كانت أولى وأحوج منّا في اعتماد سياسة تجنيسٍ بهذا السخاء، لما تتمتع به من قدرات اقتصادية وفوائض مالية وموارد طبيعية لا تقارن بمواردنا وقدراتنا، ولكنها لم تفعل. من يُحبّ وطنه عليه أن يخطّط للمستقبل، ويرى مردود هذه السياسة على الأمن والاستقرار والتنمية والرفاه الاجتماعي. البلد الذي يشكو من معدل إخصاب مرتفع، كيف يفكّر بمضاعفة سكانه بالتجنيس؟ والبلد الذي يشكو منذ عشرين عاما من معدل بطالةٍ مرتفعة، كيف يجنّس آلافا من طالبي العمل من دولٍ أخرى؟ وبلدٌ يتأخر إقرار موازنته أربعة أشهر بالبرلمان، بسبب عدم تمرير علاوة الغلاء لمواطنيه... كيف يتحمّل اقتصاده أكلاف إيواء آلاف من غير مواطنيه؟
عند بدء التوقيع على «العريضة النخبوية المناهضة للتجنيس» السبت الماضي، التي تبنتها الجمعيات الست، كان مؤثرا أن ترى شيخا محرقيا طاعنا في السن، يصر على الترجّل من مقعده المتحرّك ويسير ببطء نحو المنصة، ليكون من أوائل الموقّعين: محمد جابر الصباح، وفي ذلك درسٌ بليغٌ للصامتين وللمخدَّرين الطائفيين.
قيل في التجنيس الكثير... شرٌ مطلقٌ، عشوائي، سياسي، نزيف، جريمةٌ ضد الوطن... وعند الله تجتمع الخصوم.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2442 - الأربعاء 13 مايو 2009م الموافق 18 جمادى الأولى 1430هـ