العدد 3065 - الأربعاء 26 يناير 2011م الموافق 21 صفر 1432هـ

الحاجة إلى «دافوس» فكرية عربية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بين الفتنة ونجيب ميقاتي اختار لبنان شراء الوقت وكسب فترة من الهدوء القلق تضمن للاقتصاد بعض الاستقرار. مرحلة تقطيع الوقت يرجح ألا تكون طويلة لأن هدوء العاصفة لا يعني ان لبنان ليس مقبلاً على تطورات اقليمية معطوفة على متغيرات في السياسة الأميركية واسلوب تعاملها التقليدي مع الانظمة العربية. فالمشاهد التي تتمظهر في الساحات من اليمن والسودان والعراق ولبنان وفلسطين والاردن وتونس واخيراً مصر تؤشر إلى وجود انعطافة غير واضحة في الاستراتيجية الاميركية.

هناك سؤال يمكن طرحه في هذا الاطار الغامض. هل قررت إدارة واشنطن في عهد باراك اوباما اللجوء إلى سياسة رفع اليد عن بعض الانظمة ومراقبة التفاعلات والمضاعفات من دون تدخل لحمايتها كما كان الأمر خلال العقود الأربعة الماضية؟

السؤال سابق لاوانه ولكنه فعلاً يحتاج إلى قراءة متأنية حتى تكون الصورة مقبولة ومقاربة للواقع. فما يحصل في المنطقة من تجاذبات واستقطابات وانتفاضات مدنية عفوية يتطلب متابعة لكل التفصيلات والجزئيات حتى لا تغرق الصورة العامة في الرمال الشعبية المتحركة.

الأوضاع العربية عموماً ليست جيدة وهي في مجموعها بدأت تتكشف عن عوامل ضعف في بنية الأنظمة التي كما يبدو تآكلت زمنياً وأخذت بفعل تعاقب الأيام والظروف تفقد وظائفها. وحين تتراجع مواقع الانظمة وتبدأ بخسارة دورها وتصبح عاجزة عن القيام بمهماتها تسقط آلياً حاجة الدول الكبرى لها.

عواصم القرار ليست جمعيات خيرية وهي دائماً غير مستعدة للاستثمار السياسي في دول مترهلة ومتهالكة وغير قادرة على ممارسة وظائفها. وعدم قدرة السلطات المحلية على تأدية دورها المطلوب داخلياً وجوارياً وإقليمياً يشجع عادة الدول الكبرى على رفع الغطاء والبحث عن بدائل تمتلك عناصر قوة وعندها الاستعداد لتلبية الحاجات المطلوبة لضبط الأمن وتأمين الاستقرار وضمان المصالح.

في السياسة لا يوجد صداقة دائمة لأن المصلحة هي المحرك الآلي لضمان العلاقات وتوازن المصالح والاحترام المتبادل. والصداقة السياسية لا تدوم إلى الأبد وخصوصاً حين تجد الدول الكبرى ان مستقبل مصالحها يتعرض للتهديد بسبب ضعف انظمة لا تمتلك القدرات على تحصين الامن وحمايته من المخاطر.

رفع اليد الدولية سياسة روتينية تعتمدها الدول الكبرى عند الحاجة أو حين تكتشف ان ثمن الصداقة والحماية أصبح مكلفاً من دون مردود. وهذا النوع من السلوك الانتهازي ليس جديداً ويمكن اعطاء مئات الامثلة لتأكيده. اميركا في تاريخها تخلت عن الكثير من الاصدقاء وتنكرت لكل خدماتهم حين كانت تلاحظ ان النظام اعتراه الضعف وبات عاجزاً عن القيام بواجباته ولم يعد يستطيع السيطرة على وضعه وتلبية حاجات الناس أو ضمان مصالحها.

هذا التوصيف لعلاقات الدول لا يحتاج إلى أدلة دامغة لتأكيد صحته. كذلك لا يحتاج إلى تفسير لاعتماده نموذجاً لمقاربة المشاهد العربية كما تتمظهر الان في بعض الساحات المحلية. ما يحصل من تطورات ومضاعفات في هذه الناحية أو تلك لا يمكن عزله عن الفضاءات الدولية وتلك الرغبة الاميركية في تعديل زوايا الصورة ومراقبة مضاعفاتها وتداعياتها في زوايا أخرى.

الولايات المتحدة دولة برغماتية وهي تستخدم في سياستها الخارجية المنهج التجريبي في تقصي الحقائق وامتحان الأصدقاء في حالات الهدوء حتى تتعرف على عناصر القوة والضعف في لحظات الاضطراب وعدم الاستقرار. واميركا في هذا الإطار من الدول المشهود لها بالتراخي السريع وإدارة الظهر والتنكر لكل طرف لا ترى فيه قابلية للتجاوب مع متطلبات المرحلة وما تفرضه من ضرورات تحتاجها لتأمين الحماية للمنظومة الاقليمية.

المشاهد المتلاحقة في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والسودان وتونس والاردن واخيراً مصر ليست متشابهة أو متطابقة في آلياتها وقوانينها الذاتية ولكنها في المنطق العام تبدو متلاصقة من حيث المبدأ وتحديداً في مدى استعداد واشنطن للتخلي عن الأصدقاء حين تكتشف ضعفهم وعدم قدرتهم على تلبية الحد المطلوب لضمان المصالح. وهذا الأمر حصل في تونس حين رفعت يدها عن نظام قدم خدمات لا تقدر بثمن خلال العقود الثلاثة الأخيرة. كذلك يمكن أن يحصل في لبنان إذا اكتشفت واشنطن أن حصانها الذي تراهن عليه لا يستطيع الفوز بالسباق.

سياسة تبديل الأحصنة ليست جديدة في الاستراتيجية الأميركية باعتبارها تشكل منهجية تجريبية براغماتية تضمن لها على الامد البعيد مصالحها ولا تعرضها لخسارة السباق في حلبة التنافس الدولي على الكسب وتعزيز النفوذ.

الوضع العربي في طوره الراهن ليس جيداً وهذا ما يدفع الولايات المتحدة ويشجعها على البحث عن بدائل تمتلك قدرة وحيوية على فرض السيطرة والمنافسة والمزاحمة ومتابعة السباق. ولهذه الأسباب الموجبة كان لابد من طرح السؤال بشأن احتمال ظهور استراتيجية أميركية مغايرة للمرحلة السابقة وأسلوب تعاملها التقليدي مع الانظمة العربية.

السؤال ظني ويحتاج إلى ادلة دامغة لتأكيده أو نفيه. ولكنه في ابسط الحالات يتطلب قراءة متأنية للاحاطة بكل جوانبه للتعرف على أجزاء الصورة العامة والمتناثرة في المشهد العربي من المحيط إلى الخليج.

السؤال الاستفهامي يحتاج إلى اجابة ويتطلب فعلاً دعوة عاجلة لعقد قمة عربية فكرية طارئة على مستوى الخبراء في السياسات والعلاقات الدولية. المنطقة العربية بحاجة الان إلى «دافوس» فكرية كما هي حال القمم العربية السياسية والدفاعية والاقتصادية التي تعقد تباعاً ودورياً.

«دافوس» الفكرية العربية لا تقل أهمية عن قمة شرم الشيخ أو الكويت الاقتصادية لكونها تتطلب برنامج عمل وأولويات تضع مجموعة دراسات تتناول الوظائف الاستراتيجية العامة والمشتركة للانظمة ودورها في تلبية حاجات الناس في ظل متطلبات عصر «العولمة» معطوفة على اكتشاف علامات القصور في أبنية دول وسلطات أصبحت غير قادرة على التجاوب مع رغبات الشارع والتكيف أو التأقلم مع الاجيال الجديدة التي تشكل 70 في المئة من التعداد السكاني.

«دافوس» العربية الفكرية ليست بالضرورة قمة سحرية تستطيع اختلاق المعجزات ولكنها قد تشكل حاضنة استراتيجية للعقول العربية القادرة على التفكير وتحليل عناصر التحولات التي تعصف بالمنطقة وتهدد أمنها بالانهيار ودولها بالتفكك لأسباب مختلفة تتراوح بين أزمة هوية في السودان، ومشكلة وحدة في اليمن، وعناصر تفكك في العراق ولبنان، وضعف السلطة في تونس، وتراجع دور الدولة في مصر وعدم قدرتها على احتواء متطلبات النمو السكاني.

الأسباب مختلفة والعوامل متنوعة ولكل «مقام مقال» ولكن الصورة في المجموع العام تؤشر إلى نمو سياسة دولية تتعامل باسلوب جديد مع المتغيرات والمتحولات. وهذا الأمر إذا كان يمتلك بعض الصحة فهو فعلاً يحتاج إلى قمة عربية فكرية على غرار «دافوس» الاقتصادية، يتم خلالها المراجعة والبحث ووضع تصورات استراتيجية مشتركة لاحتواء عناصر التفجر وتأسيس رؤية مرنة وآليات ذكية للتعامل مع الفضاءات الدولية المتقلبة والعوامل الحقيقية التي تقف وراء غليان وقلق وتوتر الشارع العربي في محيطه وخليجه.

تأجيل الازمات وشراء الوقت والاختيار بين فتنة واخرى لم تعد سياسة مقبولة كما هو حال لبنان وازمته الدائمة. كذلك سياسة مراقبة العواصف ليست ذكية للخروج من المأزق. المسألة أكبر من قدرة جهة واحدة على استيعابها وهي فعلاً تتطلب جرأة في التعامل مع القضايا وشجاعة في كسر الانماط التقليدية للتعايش وتساكن الانظمة العربية. وهذه الازمة الممتدة والمتدحرجة تحتاج فعلاً إلى قرار عربي عام ومشترك يبدأ بخطوة غير مألوفة... وبعدها تتعاقب الخطوات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3065 - الأربعاء 26 يناير 2011م الموافق 21 صفر 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً