الثورات كالمشاريع. تنهَار المشاريع وتندثر إذا لم يُحسَب لها جيداً، وكذا الأولَى بذات المقدار. تتماثل الثورة والمشروع بشكل كبير في الشكل والمضمون. ففي المشروع يُوجَد مالِك ومُديرٌ ومُهندّس ومُمَوِّل له من مؤسسة مالية تبتغي ربحاً نظير إقراضها أصحاب ذلك المشروع. يَبنِيه العامِلون البُسطاء بسواعِدهم، لكنهم لا يضَعُون لَبِنَةً على أخرى إلاّ بمشورةٍ من عارِف بأصول البناء.
الثورة كذلك. مالِكُها هو الشعب. ومُديرها هو قائدٌ يُشرِف على مسيرتها. ومُهندِّسوها هم المُنَظِّرون الذين يصوغون ملامحها ومسارها، كما كان رائد الرومانسية الفنيّة في أوربا جاك روسو بالنسبة للثورة الفرنسية. أما مُمَوِّلها فعادة ما يكون من خارج الحدود، له مصلحة يستحصل عليها عندما تنتصر الثورة. أما المُحَرِّكُون لها فهم بُسطاء الناس ووسيطهم.
ضمن هذا التماثل وبينه يَكمُن محور القول. فأكبر الأخطاء في الثورات (كما في المشاريع) هو التقليد والتصدير، أو تَعْلِيب التجارب. ما جَرى هناك ليس بالضرورة صالحٌ هنا. وما فشل هناك ليس بالضرورة أن يفشل هنا. ليس صحيحاً أن يَجتَرّ الثوَّار (والتغييريون) حِراكُهُم طبقاً لحركة هذا البلد أو ذاك. لأن الحال يقول بأن العنوان قد يتطابق إلى حدّ العَدِّ التام للحروف، لكن الأهم والأكيد هو أن المُعنوَن لا يمتّ للآخر بِأيّ صِلة، لا من قريب ولا من بعيد.
حاول بعض اليسار العربي تقليد الروس في ثورتهم البُلشفية وفشلوا. ثم حاول الجزء الآخر منهم تقليد الماويّة الصينية وثورتها الزراعية القاسية لكنهم فشلوا. ثم حاول آخرون من الإسلاميين تقليد الثورة الإسلامية الإيرانية وتجربة الإمام الخميني السياسية «الحرفيّة» لكنهم فشلوا. وحاول الأوكرانيون تقليد الرومانيين وفشلوا. وحاول الجورجيون تقليد البولنديين وفشلوا. ومن قبل حاول الإسبان تقليد الفرنسيين في ثورتهم وفشلوا. وحاول الإيطاليون تقليد الفرنسيين في ثورتهم أيضاً وتأثيراتها وفشلوا، بل إن أهل التيرول في الجنوب الإيطالي قاتلوا ذلك النَّفَس على يد أندرياس هوفر قبل مئتي عام، في صدٍّ منهم للراديكالية اليعقوبية وغلوائها.
باختصار شديد أقول. إن الثورات يجمعها عنوان التغيير (الجزئي أو الشامل) لكن ما يتبايَن فيها هو أن هذه الثورة تقع على أيدي بَشَرٍ وثقافة وتاريخ وقدرات وإمكانات وجغرافيا وموازين وتوقيتات مُختلفة. فطبيعة البشر (غليظون/ مُسالمون/ مُزارعون/ صناعيون/ أميّون) لها دور في نجاح الثورة أو فشلها أو تكلّسها أو انحرافها، وثقافتهم أيضاً إن كانت تميل إلى التغيير أو الركون إلى الصَّمت. وكذا مكان إقامتهم (أرض مفتوحة أو مُغلقة أو مقبوضة أو سَهليَّة أو جبلية أو بحرية أو مُتاخمة لعديد من الجوار) واختيار وقت إشعال الثورة ومدى صلاحيته.
دَمَّر الرّوس دولة شركسيا في العام 1864م ولم يعُد لها وجود ولم توجد بها مقاومة بعد ذلك رغم أن سُكّانها هم أهلُ بأسٍ شديد كما جُبِلَ على ذلك أبناء البحر الأسوَد ونهر كوبال وعُموم القوقاز. الفَرق كان في رخاوة التوقيت عندما كان الأتراك (وهم حُماة الشركس) لا يملكون قدرة حينها على فِعل شيء. وُجِدَ البشر ووجِدت الثقافة والجغرافيا والتاريخ لكن القدرات والإمكانات والوقت لم يكن نصيراً لهم. حصل ذلك في السابق أيضاً مع الصقليين ومملكتهم وجمهورية البندقية وسردينيا وعُموم الدول والأنظمة التي انهارت في أوروبا.
بالتأكيد فإن الجميع اليوم ينظر لما يجري في تونس من أحداث وتغيّرات في بُنيَة السلطة هناك. بعضهم قرَّر أن يفعل ما فعله محمد البوعزيزي (26 عاماً) عندما أحرق نفسه احتجاجاً على عدم توظيفه وملاحقته في رزقه. لكن هذا الأمر غير صحيح. فالبوعزيزي لم يكُن سوى طلقة الإيذان ببدء التحرُّك في الشارع التونسي. لأن ما سبقه من احتقان سياسي وفساد مالي واستئثار بالثروة والسلطة معاً وإقصاء وتهميش لقوى المجتمع المدني وللمسطرة الحزبية، هي في مجموعها مَنْ كان السَّبب في هذا التغيير الدراماتيكي وليس البوعزيزي في حد ذاته.
في الأيام القليلة الماضية قام موريتاني من أهل الذوات ويُدعَى يعقوب ولد داود (40 عاماً) بإحراق نفسه داخل سيارته، احتجاجاً على سوء معاملة الحكومة لأفراد عائلته! وفي الجزائر قام سنوسي توات بسكب البنزين على نفسه لكنه لم يمُت. وقام محسن بوطرطيف في الجزائر أيضاً بإحراق نفسه لأنه لم يحصل على منزل. وفي برج منايل الجزائرية أحرق عويشية محمد نفسه أيضاً. كلُّ ذلك التقليد الحرفي المُطابِق لن يُجدي نفعاً. بل لو أن نصف الجزائريين والموريتانيين قاموا بإحراق أنفسهم فلن يعني ذلك إلاّ مزيداً من اللُحُود والأكفان ليس إلاّ.
عندما رَمَى الصحافي العراقي منتظر الزيدي الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بالحذاء حين كان في مؤتمر صحافي بمعيّة رئيس الوزراء نوري المالكي حاول آخرون تقليده. ففي الهند رَشَقَ أحدهم لال كريشنا أدفاني المرشح لمنصب رئيس الوزراء عن حزب بهاراتيا جاناتا بالحذاء. وقبله ألقى أحد الصحافيين السِّيْخ فردة حذائه على وزير الداخلية الهندي مُتّهماً إياه بالإساءة إلى أحداث 1984. ثم ألقى آخر بحذائه على النائب نافين جيندال من حزب المؤتمر الحاكم بولاية هاريانا الهندية. ثم رَمَى طالبٌ جامعي ألماني هو مارتن جانكي بحذائه على رئيس الوزراء الصيني وين جيا باو أثناء إلقاء الأخير كلمة في جامعة كيمبردج البريطانية.
لكن تلك الأحذية لم تأخذ طريقها إلى التأثير ومحاكاة الرأي العام العالمي كما فعل حذاء الزَّيدي الذي اختصّ لنفسه بذلك التأثير والصَّدى، بل وبِيْع حذاؤه في مزاد وصل إلى أزيد من عشرة ملايين دولار. لماذا؟ لأن الزَّمكان مُختلف، والشخص المُستَهدف مُختلف، وهَمُّ الحادثة أيضاً مُختلف، والأكثر اختصاصها بالفرادة وعدم التقليد. فلا جَبَّت شيئاً قبلها ولا جُبَّت من أحد بعدها.
ما يجب أن يُدرَك من كل ذلك هو أن صناعة الأحداث والسياسة لها حقوق ملكيّة لا يجوز سرقتها إلاّ بغرض التعلّم. لذا فإن الأجدى بجميع السياسيين في العالم العربي أن يتعلّموا كيف يُقلِّلوا من خسائرهم ويزيدوا من أرباحهم في حِراكهم السياسي لا أن ينغمسوا في استجلاب واستحلاب تجارب الآخرين في الشكل والمضمون. فلا تَوْنَسَة السَّعي السياسي بصحيح بذات المقدار من الهَوَس في حرق الأجساد والتي تحولت وكأنها أضَاحٍ أضاعت حافز التضحية الكبير بآخر لا يُجدي نفعاً.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3060 - الجمعة 21 يناير 2011م الموافق 16 صفر 1432هـ
هههه (الحمد لله نحن في البحرين)
البطالة متفشية و الرواتب ضعيفة و الاشياء في زيادة مطردة دون ان تقابلها زيادة في الأجور
بالفعل
الثورة لها أساس وليس قيام أي شخص بحرق نفسه يعني حدوث ما حدث في تونس.
الاخ محمد بوركت في الطرح
ان شاء الله يحترقون الظلام
احرق روحي مجنون اكعد على جبدهم واطالب بحقي
الحمد لله نحن في البحرين
الحمد لله نحن في البحرين ليس لدينا بطاله كما ذكر سعادة الوزير مجيد العلوي و لا يوجد داعي ان يحرق مواطن بحريني نفسه من اجل وظيفه. نشكر سعادة الوزير مجيد العلوي على حل مشكلة البطاله لدى المواطنيين البحرينيين.
حامض
لو ألف مرة تحرق روحك ما بيصير شي
بنت الراشد
لو العاطلين في ديرتنا بحرقون انفسهم -- الديره بتصير عجايز متقاعدين واطفال
تونس مختلفة
القضية برمتها هي أن الفشل السياسي لدى الأحزاب والجماعات عادة ما يدفعها إلى الانتحار بشكل فردي أو جماعي ولكن ما جرى في تونس هو أمر مختلف بالمرة ويمكن ان يكون محلاً للتباحث والدراسة
الفقرة المعبرة
كلُّ ذلك التقليد الحرفي المُطابِق لن يُجدي نفعاً. بل لو أن نصف الجزائريين والموريتانيين قاموا بإحراق أنفسهم فلن يعني ذلك إلاّ مزيداً من اللُحُود والأكفان ليس إلاّ
مقال
مقال ونعم المقال يا استاد محمد سلمت يداك
إذا فليحرق العاطلون عن العمل كلهم وهم كثر
البعض لا يلام ولكن واقع البطالة شيء مخيف بالوطن العربي ولأن وضع البطالة بالوطن العربي يختلف تمام عن الدول الغربية التي توجد للعاطل
ضرورياته اليومية من سكن ومأكل وملبس أما في الوطن العربي فالعاطل عاطل عن كل شيء لا يحصل حتى على ما يسد رمقه
نار البوزيدي
سلمت يداك .. نِعم التحليل و التأويل .. نعم لا يمكن اخذ صورة (فوتو كوبي) عن اي ثورة .. لكل ثورة بيئة تنتعش فيها و قلوب وعقول تحتضنها .. والأهم ان ثورة تونس جاءت عفوية غير مخطط لها ولكن الغضب الذي اصبح ككرة الثلج هو ما اوصلها لما وصلت اليه .. فالنار الأولى كانت ساخنة كبركان تفجّر اما ما تلاها من نار (تقليد) فهي ربما تكون (بردا وسلاما)!!