للمدن ملامح وهويَّات، أشكال وألوان، ذكريات وآمال، ولكنها لا تبوح مثلما يبوح البشر. المدينة تصنع الإنسان، تنحتُ جسده، تُنشئ نفسه، وتمنحه حيّزاً للحياة والعمل. والمدينة هي امتداد لأعمار الناس، وهي مساحة غير محدودة لطموحاتهم وتطلعاتهم، ولذلك يُبدع الناس في بعض المدن ولا يكتفون من تحقيق الإنجاز تلو الآخر، لأن روح المكان تفرض عليهم أن يكونوا متميّزين، وتدفعهم لكي يستمروا في الأمل والعمل، فمن لا يعرف كيف يأمل، لن يعرف كيف يعمل. تتسع المدينة كلما اتّسعت أحلام من يسكنها.
قد تحتويك المدينة وقد تحتويها، وإذا كانت أحلامك أكبر من مدينتك فإنه عليك أن تهاجر، أو تقوم ببنائها بما يتناسب مع طموحك، أما إذا بقيتَ فيها دون أن تحرك ساكناً، فاعلم بأنها لم تكن سوى أضغاث أحلام. نُدركُ بعد زمن بأن المدن هي التي تصنعنا ولسنا من يصنعها، تُلهمنا وتبكينا، ترفعنا وتهبط بنا، ثم تختزلُنا في صفة ما، فهذا تاجر، وذلك مهندس، وآخر موظف... هكذا هي المدن، تُملي علينا ما نفعل، وتدلنا على الطريقة لكي نجد الطريق.
يُسافر الإنسان إلى آخر الأرض ليلتقي بمدينة لا يعرف ملامحها، ويكفيه أن يحدّثه أحدهم عنها حتى يغرق في حبها قبل النظرة الأولى، ثم يدرك بعد سنوات بأن تلك الرحلة كانت أصدق رحلة قام بها في حياته. إن المدينة التي تدفعك إلى التفكير في المستقبل هي مدينة عظيمة، ولذلك عليك أن تنصت لها جيداً، وتبحث عن إشاراتها بين أزقتها، وعلى صفحات أرصفتها المنتشية بين أوراق الخريف المتساقطة، أو بين أزهار الربيع المتعالية.
المدينة التي تصنع الرجل تشبه المرأة التي تحبه، فكلاهما تدفعانه إلى التغيير وتمنحانه عُمراً إضافياً يحرره من كل سنوات الضعف والأسى التي مرت في ذاكرته. المدن التي تصنعنا تشبه النحات الماهر الذي يقضي سنوات من الإخلاص في نقش وجه من يحب، فالمدن ليست في عجلة من أمرها، وحده الإنسان من يدفعها إلى العجلة ويحفر أعماقها من أجل أن يصل قبل الآخرين، وعلى رغم ذلك، تمنحه المدينة التي تحبه كل ما تملك ليكون إنساناً أفضل، ثم لا تأبَه إن شكرها أم لا، بل يهمّها أن تراه سعيداً... بعض المدن مثل الأم الرؤوم التي لا تخشى من أطفالها بل تخشى عليهم.
المدن هي ترجمة لطموح الإنسان، وهي انعكاس لرغباته وتطلعاته، فمن الناس من يبني مدينة من حجر، ومنهم من يبني مدينة من ورق، منهم من يبني مدينة من حُب، ومنهم من يكتفي بالعيش في أي مكان يؤويه... هؤلاء مساكين، فهم لن يعرفوا معنى الحياة أبداً.
المدينة مثل المرأة، تصبر على من تحب عندما يُخطئ، وغالباً ما تمنحه فرصة ثانية لكي يحاول أن يُحبها مرة أخرى. تحب المرأة حقاً عندما تعطي، وعندما تحب المرأة، تتوقف الأرض عن الدوران حتى تستمتع بذلك الحب.
المدن الحضارية ليست تلك التي تأوي أبراجاً شاهقة وشوارع نظيفة فقط، بل هي التي تتلاقح فيها العقول المختلفة، وتنسجم فيها الآراء المتنافرة، وتتلاءم فيها القلوب المتباعدة... المدن الحضارية هي التي تمنحنا فرصة لنحب أنفسنا ونحب بعضنا، وتساعدنا على احترام الآخر، أياً كان لونه أو دينه.
المدينة التي تزدحم فيها الطرقات تزدحم فيها الأفكار، وكلّما حلّقت في سمائها طائرة، حلّقت أمامها أمنية لتدلّها على الطريق. لا تُشعرنا المدن المزدحمة بالوحدة أبداً، فلولا الضجيج لما تمكن الإنسان من إدراك مهاراته، ولولا الضجيج لما تشجّع لكي يطور نفسه. الضجيج لغة المدن وأسلوبها في التعبير عن ذاتها.
المدينة الحقيقية هي التي تحملها في داخلك، لا التي تحملك في داخلها، ومن يحمل مدينته في قلبه فإنه لن يشعر بالغربة أبداً، والمدينة التي تجد فيها قلبك تصبح مسقط رأسك الجديد. يبدأ تاريخ المدن عندما يفكّر الإنسان في مستقبلها، لأنه حينها فقط يبدأ بالعمل، وعندما يعمل الإنسان من أجل مدينته، فإن العالم كلّه يعمل معه. المدن الحالمة هي المدن التي تدفعك للضحك أكثر من البكاء، وهي التي تدعوك لحمل كتاب معك كلما ارتدتَ حافلة أو جلستَ في مقهى. تنتشي في هذه المدن رائحة القهوة طوال اليوم، فالقهوة هو أسلوب إغوائها لساكنيها كي يفكّروا كثيراً، ويعملوا أكثر. المدن التي لا تجد فيها قهوة جيدة هي مدن بائسة، يسودها الكسل، وتسكنها الدّعة. تفتقد هذه المدن إلى ملامح وهويات، لأنها تحب الانزواء في أطراف الأرض، مثل بعض البشر الذين يُفضلون الجلوس في الظل، حتى عندما تغيب الشمس. المدينة الحقيقية هي التي تحضُّك على الإتقان، وتدفعك إلى إماطة الأذى عن طرقاتها، حتى وإن كانت مهترئة، فجمال المكان يَكْمُنُ في جمال الإنسان. عندما تَكفّ عن رمي المهملات في الشارع فإنك تبني مدينة، وعندما تبتسم للمارة فإنك تبني مدينة، وعندما تقف في طابور الانتظار فإنك تبني مدينة. يبني الإنسان المدن عندما يشعر بحاجته إلى الحياة، وكلّما بنى أكثر عاش أكثر.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3060 - الجمعة 21 يناير 2011م الموافق 16 صفر 1432هـ