المحرق - حبيب حيدر
أطلّ الراوائي والباحث المغربي سالم حميش بروح المثقف الموسوعي على الوضع العربي متنقلا من أفق السياسة الضيق ومراوغاته، إلى ارتهان الكيانات العربية اقتصاديا في أتون الاستهلاك المزمن، ليختم حديثه برهانات الثقافة واستشرافاتها، مفككا عقد الواقع العربي ومستشرفا إمكانات تجاوزها، وذلك في محاضرة ألقاها بمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث.
وقسّم حميش عقدة الوضع العربي إلى ثلاثة محاور أساسية هي محور الاستعمار وبقاياه، ومأساة فلسطين وما وراءها، خاتما بالرؤية الأميركية، قارئا ما وراء ذلك من مسائل ثقافي، واصفا منهجه في تناول تلك المحاور بالأثير لديه حيث «يجتمع الفكر بالتاريخ بالثقافة بالسياسة والسسيولوجيا، هذا المنهج الذي اخترته واختارني فحيث ما تكون هناك أزمة يحضر هذا المنهج، والأزمة التي تهمني هنا هي أزمة ذات مضاعفات على الجسم الاجتماعي نفسه، الأزمة البنيوية في تناول الحكومات لأوضاعها، والتحولات السياسية، من أجل معالجتها وإيجاد الحلول لها، وتابع حيث لن أترك الحبل على الغارب، لأن على المثقف أن يدلي بدلوه، للحل وتلمس بصيص الضوء، لمعالجة هذه القضايا».
وحدّد حميش - بحسب توصيفه لأزمة الواقع العربي - العقدة الأولى في الاستعمار ومخلفاته، مؤكدا على أهمية عدم تناسي هذه النواة الصلبة، إذ لا يجوز أن نبخس الذاكرة حقها، فالشعب الذي ينسى مآسيه محكوم عليه أن يعيدها، والبعض حين الكلام عن عقدة الاستعمار يعتقد بأننا نتكلم عن مشجب، مبينا حميش أن الأمر ليس كذلك، بل إن عقدة الاستعمار هي النواة الصلبة، محيلا على كتاب الاستعمار الأسود لمارك فيرو بالإضافة إلى الكثير من الباحثين الذين يؤكدون على أهمية مراجعة هذه الصفحات السوداء التي سلكها الاستعمار الاستيطاني «الاحتلالي» كما عرفه العالم العربي، متوقفا مع مذكرات تاريخية التي كتبها بعض المبعوثين للشرق موصفا إياها بالوجوه الكالحة كحالة توماس إدورد لورنس في كتابه «أركان الحكمة السبعة» حيث يقول «لقد بعثت إلى هؤلاء العرب مكلفا بتدريبهم»، ولعله هكذا تكون المهمة الاستعمارية مطابقة للمصلحة حيث تطلب منه التأثير في العرب أن يكون مثلهم «لأني لم أكن أبلغ ذلك من غير أن يشعروا....» وهناك من يبرّر كحالة لورنس الذي يبدوا وكأنه قادم لمساعدة العرب في وجه الأتراك بينما الأمر عكس ذلك «فبدون مساعدة العرب لن ننتصر على الأتراك»، خالصا حميش إلى أنك بالقراءة تتساءل هل جاء منقدا أم مخبرا. وسلط حميش الضوء على عقد الوضع العربي الآن ليوصفها بالاستعمار الخفي أو القوة اللينة «فالآن نحن أمام نوعين من القوة كما يصنفها إدوارد سعيد، وتوماس، حيث هناك الاحتلال بالقوة المباشرة، والاحتلال بالقوة الخفية اللينة، وما عرفته الدولة العربية من الاستعمار وعودته الآن، إنما هو من باب العمل بهذين المبدأين، وملخص مبدأ القوة «هو أن أجعل الدولة تريد ما أريد» بينما المصلحة الوطنية هي المبدأ الذي يعلو ولا يعلى عليه، إذ لابد للدولة من المحافظة على الكيان والشخصية، مشيرا إلى أن سريان مصالح القوى العظمى واضحة فيها للعيان في بعض الأنظمة دولية وقد عاد حميش ليلخص هذا المحور بمقولة بعض المؤرخين إن «الاستعمار كان شرا لا بد منه» متوقفا مع تجربة محمد علي في مصر، ومحمد مصدق في إيران، ومحمد الثالث في المغرب، وجهود هؤلاء الثلاثة في نفض تركة الاستعمار الثقيلة، حيث تأميم الثروة النفطية مع مصدق وصراعه مع السي آي إيه، ومحاولة محمد على في مصر اللحاق بالدول المتقدمة إذ يقول «أنا لست منهم، ولكني أحب أن أعامل معاملة إنسانية» وقصة العدوان الثلاثي على مصر وتأميم قناة السويس، والقائمة طويلة وحكاية محمد الثالث الذي حاول تحديث المغرب سياسيا واقتصاديا، حيث كسر جيش العبيد وحاول تنظيم الضرائب إذ لو استمرت هذه الحركة لأدّت لشيء آخر.
ثم تحدث بن حميش عن العقدة الثانية وهي القضية الفلسطينية «هذه المأساة التي سنرى كيف أن الدول العظمى تكيل فيها الأمور بمكيالين، وفرض سياسة القوة دائما، وذهاب قرارات الأمم المتحدة أدراج الرياح، حيث يتم قراءة المأساة دائما من 1967 وكأن المأساة قد بدأت فقط مع هذا التاريخ، إلى أن وصلنا إلى مفاوضات أوسلو، وإعلان شارون أنها لاغية، حيث ظلت الشرعية الدولية وكأنها عاجزة تماما،...».
وبشأن المحور الثقافي ابتدأ حميش مع قراءة الوضع العربي وفق مفهوم صراع الحضارات وتوقف مع صمويل هنتكتون مشيرا إلى أنه لم يكن أول من وضع مصطلح صراع الحضارات، ثم انتقل إلى الكلام عن ثنائية المشرق والمغرب مؤكدا على أنهما جناحان لجسم واحد، وأن الثقافي العربية العابرة للمكان هي رأس مالنا الرمزي، وأن التحدي الأكبر الآن في التنافس على ثقافة البناء لا على الثقافة العدمية، وأن من لم يحقق هذه الغاية إنما بسبب أن جراح الاستعمار لم تندمل بعد حيث كان الاستعمار يعتبر بعض الدول مقاطعة خاصة به أو كان يمارس إبادة جماعية. ثم أكد حميش على أهمية عدم التبخيس الثقافي في النظر لمجريات الأمور وتحولاتها وعاد لثقافة البناء وممارسة الديمقراطية فأكد على ثقافة الديمقراطية وتطبيقاتها لن تتمكن من الواقع العربي إلا بإسنادها بالتنمية وتجاوز التعارض بين المقولة والفعل، وإعمال مقولة التيسير من أجل التيسير، واجتثاث أسباب التخلف العربي.
وأكد حميش على أن الشق الثقافي لوحده يحتاج لقراءة مفردة متعمقة، وتوقف مع مفهوم اللغة وتأكيد الهوية حيث تفرض اللغة وتضعف بالقوة، وكذلك تفعل اللغات القوية أمام اللغات المهزومة، وما هي إلا عملات في حقل الثقافة، وتوقف مع نماذج الاستشراق ناقد هذا الفعل بقوله «هي لم تزرع كذوات مفكرة بل مواضع للاستخبار» وأن الاستشراق ركز على حقول أساسية هي حقل الذهب الأسود، والحقل الديني حتى أصبحنا أمام جيش من الخبراء، ولكن هذه المعرفة لا تتجاوز سوى المعرفة الريعية، ولذلك لا يمكننا أن ندخل فيما نصبو إليه من حوار الحضارات، ويكفي أنه في أميركا لا يعرفون عن العربية سوى رواية جبران ورسالة محفوظ الذي حينما تكلم في محفل تكريمه ساد الصمت ولم يجد سوى أن يقدم نفسه إلا بقوله» اسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالصيغة التي تستند إليها الطبيعة البشرية» وأكد حميش في ختام هذا الشق من حديث على أهمية النظر إلى الهوية العربية بجدية تامة بقوله: هويتنا على شفا حفرة من الهاوية.
وأكد حميس في ختام محاضرته على أهمية مفارقة التبعية المتعبدة اللامنتجة والتي مثلها مثل المديونية التي مازالت سارية على نحو خفي، فنحن أمام الصيرورات الإعلامية لا بد أن نطرح على فكرنا أسئلة جذرية هل يجوز إقامة الوجود على الآخر بالاقتباس ممثلا هذه الحالة بالنقب في صحون الغير، متسائلا من نحن وما هي مواقعنا؟ ولا بد من استعادة قدراتنا على إدهاش الآخر، وتجاوز العقدة الديمقراطية، مؤكدا على أنها ليست صنما يعبد، ولكن حين نجعل المواطنين يمارسون حقوقهم حينها نكون باركنا الديمقراطية، مؤكدا على أن أي ديمقراطية سياسية دون ديمقراطية اقتصادية كالديك الأعرج وتعرفون كيف يمشي، مستشرفا ما في الإرث الثقافي العربي من حديث طويل بشأن المساواة والعدالة، موجها قوله «عندما تتحدثون عن الاستعمار تحدثوا أيضا عن التملك الوظيفي للحداثة التي عكف بعض الدعاة إلى تحويلها إلى وصاية سياسية، بينما هي فقط مجموعة من الآليات، ولا بد من مراكمة المعرفة عبرها وإلا أصبحت شعارات جوفاء وصرنا بها سوقا للمنتجات الاستهلاكية، مع التأكيد على العمل في سبيل ترقية الإنسان والوجود الاجتماعي بقصد الانخراط الحيوي في أركان المؤسسة السياسية والتأكيد عل حق الفرد في إدارة الحياة السياسية، وكذلك حقه في المحاسبة التعامل مع الجميع كفاعلين سياسين، وختم حميش بالدعوة إلى التحديث والتجديد في الفكر الإسلامي وتأكيد عمقنا التاريخي، والتخلص من عقدة الدونية، وأن نحب لهويتنا ما يحبه الآخرون لهويتهم، ونحقق تلك المقولات الكبرى من الأخذ بأسباب العولمة.
العدد 2442 - الأربعاء 13 مايو 2009م الموافق 18 جمادى الأولى 1430هـ