اتصلت بأحد الأصدقاء الأعزاء مِمَّن يكبُرني بضعف عُمري أو أكثر وممن له منصب مُتقدّم جداً في العمل، فوَجَدتُ أن هاتفه المحمُول مُغلَق. كان ذلك في الساعة التاسعة والنصف صباحاً. عَاوَدتُ الاتصال به في الساعة الواحدة والنّصف ظهراً فَرَدَّ عليَّ بتلَبُّك وسط جَمْع يُهَدِّرُوْن بحديث غير مفهوم. أخبرني بأنه سيُعاود الاتصال بي لأنه في وضع لا يسمح له بالحديث معي كما يجب.
تبيَّن لي لاحِقاً بأنه كان في مستشفى خاص بِرفقَة رَجُلٍ كَهْلٍ ألَمَّ به دَاءٌ عُضَال واجتاحته الفاقة وأكل الزمن من راحته وعِزِّتِهِ ما أكل حتى أجلسه على حَسَكِ السَّعدان. ثم أتبع ذلك الإجراء بعيادة طبيب آخر لاستكمال الفحوصات الدقيقة المطلوبة من أشعّة مقطعية وتحاليل للدم للتثبُّت من أمرٍ خطير بدا أنه كامِنٌ له في العمود الفقري. الرجل العليل لا يَمُتُّ لصاحبي لا بصلة في الدَّم ولا في الجيرة، لكن ذلك لم يمنعه (ومن منطق إنساني كريم) من أن يبذل من أجله بَذلاً وفيراً من المال والوقت والجهد والاهتمام الاستثنائي.
هذه الحادثة راكمَت على ما لَدَيَّ من حوادث مماثلة لذلك الصديق. استحضرتُ منحه مبلغاً كبيراً من المال لعامِل تنور عجوز ذي حاجة أُخْرجَ من مَخْبزه عُنوة لخلاف بينه وبين صاحب المكان. واستحضرتُ شراءه أشياء لا يحتاجها (كثيراً) فقط لإربَاح صاحب الحانوت المركون في ذلك الزُّقاق. وتذكّرت مُبادرته السَّخِيَّة لمساعدة امرأة حَطم أحلامها الزّمن، حين شاءت الأقدار أن تُصابَ بدَاءٍ مُهَدِّدٍ لرأسها اقتضى نقلها إلى الخارج فوراً. وتذكَّرتُ وقوفه الشَّهْم مع شكوى زَرَّاع حديقة بيته، حين أزَاح عن عاتقه أعباء البُنُوَّة كان لا يقوى على تلبيتها. بالتأكيد لا أريد أن أستحضر أكثر مما استحضرت، وخصوصاً أنه ليس من الصعب أن أختصر القول إذا ما كان لديّ ما أقوله على حدّ تعبير الفيزيائي الألماني جورج لشتينبرغ.
غاية القَول فيما إننا بصدده هو عِدَّة أمور مُؤكَّدة يجب الإشارة إليها هنا. الأول وهو أن الإحساس بالآخر والتواضع له يعني محاربةً صريحة للاستئثار والشُّح (الذي هو في المال والمعروف معاً)، وانتصارٌ للمُداراة. وهذا إن عَنَى شيئاً (لي أو لغيري) فإنما يعني صَدَّاً للفردانية لصالح المجموع، والقضاء على الشعور بأن الأنا هي الأقدس وليس الناس، وهي معركة أحسب أنها حاسِمة لبني البشر، فإما أن ينتهي فيها الفرد صريعاً في حبّ المال، أو أنه يُنهِي هو بجدارة ونصرٍ مُؤزّر كثيراً من الخُلق الرديء، الذي يُوسَم به عادة الأقِلاَّءُ من الرجال.
بل إنه ليس من المجَاز أن نقول إن الأخلاق هي مُلهِمَة القانون، فإن ترسَّخت ترسَّخت معها كلّ الممارسات التي يتوجّب أن تحصل. فالحقوقيون يقولون إن القانون الطبيعي «قائم على القواعد والمبادئ المثالية التي ينبغي أن تحكم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والتي يهتدي إليها المرء بفطرته» لذا فإن التلازم بينهما بائِنٌ بيان الشمس في رابعة السّماء، بل إن تماثلهما في التطبيق هو الآخر متلازم، ولنا في شعوب ودول كثيرة خير مثال.
الأمر الآخر هو كيف يُحيِّد المرء انتماءاته العقائدية والسياسية والفكرية وحتى الطبقيّة حينما يِهِمُّ بالعطاء. فللأسف أصبح المذهب معياراً للعطاء؛ فمن كان على هذا الدِّيْن لا تطيعه نفسه أن يبذل لمُحتاج إذا كان من دِيْن آخر. وأصبحت السياسة والأفكار والحالة الاجتماعية برازِخَ في البَذل. وهي نِسَبٌ من الأفهام المُخجِلة التي يُعَاب عليها الإنسان. وأحسب أن صاحبي كان مُوقِناً بأن كلّ تلك التصنيفات لا (ولن) يفقه لها طريقاً مُطلقاً.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3051 - الأربعاء 12 يناير 2011م الموافق 07 صفر 1432هـ
شكر ا
ننتظرمنك المزيد
ضربت على الوتر الحساس
أنا أعمل في شركة تُعد من كبرى الشركات الاهلية في البحرين وتعمل في مشاريع حيوية، لو تطلب الأمر دخولك على أحدهم من أجل أمر يخص العمل، تراه تغيرت ألوانه وبدى منفعلاً!!! لا لشيء فقط لأنه يتوقع أنك ستطلب مبلغ مالي!!!
ومثال آخر، لو طلبت مبلغ 1000 دينار التي لا تساوي 0.00000001 بالمئة من الأرباح أو الدخل او او الخ سوف ينفعلا ولن يعطيك حتى دينار واحد!!
لب الموضوع
الأمر الآخر هو كيف يُحيِّد المرء انتماءاته العقائدية والسياسية والفكرية وحتى الطبقيّة حينما يِهِمُّ بالعطاء
المداراة
المداراة هي أساس التواصل الاجتماعي
الحس الانساني
الحس الانساني نابع من الرحمة فمن كانت لديه رحمة فهو الانساني السوي شكرا على المقال