أسباب كثيرة تشجع على زيارة فيتنام. فهناك الجانب الاقتصادي إذ يشهد الجار الجنوبي للصين قفزة تنموية كبرى بعد أن أقرت الحكومة «قانون التنافس» في العام 2004 الذي أعطى فرصة للتملك وشراء البيوت والأراضي والاستثمار ما أدى إلى انفتاح السوق على التوظيفات الأجنبية وبدء تطوير البنية التحتية واستخراج المواد الأولية وإعطاء رخص للشركات بفتح فروع للتصنيع المحلي. وهناك الجانب السياسي الذي يستلهم النموذج الصيني في إدارة الدولة بقبضة سياسية ناعمة مقابل حرية التنافس الاقتصادي في ميدان الأسواق والتجارة والاستثمار. فالحزب الواحد الحاكم الذي احتكر السلطة بخشونة لايزال يتحكم بمفاصل الدولة ولكنه انفتح على الداخل من دون أن يتخلى عن سياسة التوجيه المركزي التي تعتمد خطة أولويات مبرمجة تطمح إلى كسر الحصار والدخول إلى الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية بغية تسريع مشروع التنمية في مختلف حقوله ودرجاته المرسومة سلفاً.
زيارة فيتنام ضرورية حتى لو جاءت متأخرة وذلك لأسباب عدة تتعدى حدود الاطلاع على العملية التنموية والانفتاح السياسي المدروس. فالمسألة لا تتعلق بالاقتصاد والحاضر والمستقبل بقدر ما هي تتصل بالذاكرة وما تمثله من رموز متخيلة عن بلد تعرض لعدوان أميركي مدمر وانتهى في ابريل/ نيسان 1975 على دوي هزيمة الولايات المتحدة وانتصار فيتنام. الزيارة المتأخرة لها علاقة بتلك الذكريات وما تبقى من صور قديمة عن بلد احتل في ستينات وسبعينات القرن الماضي عناوين الصدارة في الصحف الكبرى. آنذاك كانت فيتنام تمثل حقل اختبار للصراع الدولي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكان الاعتقاد بأن من يكسب المعركة في هذا الميدان الصغير يربح العالم ويسيطر على المستقبل.
فيتنام كانت في نظر الكثير من الايديولوجيين المتحمسين – من بينهم كاتب هذا المقال – المفتاح الذي إذا أمسك به سيتمكن المنتصر من التحكم بالكثير من المتغيرات والمتحولات، بينما سيخرج المنهزم من قواعد اللعبة الدولية ويطرد من صناعة التاريخ. الدافع الايديولوجي لزيارة فيتنام يحتل أولوية لأنه يخاطب ذكريات كانت في سبعينات القرن الماضي تشكل مجموعة حقائق راسخة لا تحتمل النقاش أو المراجعة. فيتنام هي الرمز والقائد هوشي منه هو النموذج وتكتيكات حرب العصابات (الفيتكونغ) هي مصدر قوة الشعوب القادرة على كسر جبروت أكبر قوة عسكرية في العالم.
المخيلة آنذاك كانت قوية والأحلام كبيرة والخبرة ضعيفة والطموح لا أفق له. وبسبب تلك الصور الوردية كان من الصعب الانتباه في تلك الفترة الساخنة إلى خطورة السلبيات ومخاطر التسرع في القراءة والاستنتاج. وأدى ضعف التجربة إلى تورط جيل في معركة كان يراد منها أن تكون فاتحة تحول وإذ بها ترتد إلى الداخل وتجرجر بلاد الأرز إلى حرب مفتوحة لا يعرف متى وكيف تتوقف آلاتها عن العمل.
قد تكون المصادفة لعبت دورها وربما كانت مقصودة حين انفجرت الحروب اللبنانية في ابريل 1975 أي في الشهر الذي أعلن فيه عن التوصل إلى انسحاب القوات الأميركية من سايغون ودخول ثوار الفيتكونغ عاصمة فيتنام الجنوبية وإعلان الاستقلال والوحدة تحت راية فيتنام الشمالية.
آنذاك اجتاحت العالم قراءات ايديولوجية متسرعة لمشاهد الهزيمة وصور الانتصار حين أعلنت نهاية العصر الأميركي وبداية العصر الفيتنامي. فالانتصار المنظور إليه من على بعد عشرات آلاف الأميال تعامل مع تداعيات المشهد الفيتنامي على المسرح الدولي برؤية عاطفية نجحت بسرعة في اختراق المخيلة وإطلاق سلسلة من الصور المتفائلة والمبشرة ببزوغ فجر جديد على بلاد الأرز.
تحت وقع الحدث الدرامي أعلن الايديولوجيون المتحمسون بيروت هانوي العرب وأن لبنان هو رأس حربة حركة التحرر العربي من المحيط إلى الخليج وأن تحرير فلسطين يبدأ وينطلق من الساحة اللبنانية. المصادفة لعبت دورها زمنياً بين توقف الحرب في فيتنام واندلاعها في لبنان في الشهر نفسه والسنة نفسها، ولكن الايديولوجيا التي شجعت على إعلان بيروت هانوي العرب كانت خارج التوقيت ولا علاقة لها بالزمن لكونها اعتمدت إشارات خاطئة تفتقر إلى الخبرة والمعرفة ولا دراية لها بتلك الشروط الموضوعية والبيئة الجغرافية السياسية والمحيط الجواري والعمق العربي ومدى استعداد الأطراف المحلية على تحمل النتائج وتلقي سلبيات الارتدادات المتوجبة عن اتخاذ مثل هذه الخطوة الناقصة.
زيارة فيتنام المتأخرة كان لابد منها حتى لو جاءت بعد 35 سنة من وقوع الحدث وذلك لإعادة امتحان الذاكرة واختبارها ميدانياً على أرض الواقع. فالمخيلة المحمولة بالصور الرمادية عن فترة سابقة اتسمت بالغضب والتفاؤل باحتمال حصول التغيير المطلوب تحتاج فعلاً إلى إعادة إنعاش للتعرف فعلاً على الأسباب التي تدفع العقل في لحظات إلى التخدير والتلاشي وفقدان القدرة على التقاط تلك التفصيلات والجزئيات التي تلعب أحياناً دورها في تشكيل مفارقات لا يدركها الايديولوجي إلا بعد حصولها. كيف يمكن أن يتصور العقل أن تكتب عشرات المقالات في سبعينات القرن الماضي تتحدث عن نهاية أميركا ودخول العالم العصر الفيتنامي؟ وهل من المعقول أن تلعب الايديولوجيا دورها الهائل في تزييف الواقع وترسيم رؤية تخدع العقل وتقلب المقاييس بكل بساطة وسذاجة؟
أسئلة كثيرة يمكن إدراجها في سياق الرحلة إلى فيتنام ولكنها كلها في النهاية لا تستطيع الإجابة لتفسير كارثة شاءت المصادفة أن يكون موعدها في ابريل 1975. فالمصادفة لا معنى لها في تضاعيف الزمن ولكنها مفيدة للمقارنة بين اللحظتين الفيتنامية واللبنانية. فيتنام اليوم باشرت بعد 35 سنة من «الانتصار» بالخروج من آثار الحرب وإعادة هيكلة اقتصادها ليتناسب مع متطلبات العصر وشروط السوق. والولايات المتحدة التي خرجت منكسرة من الغابات والمدن تعود بقوة الاقتصاد الناعمة إلى بلد فشلت في السيطرة عليه بقوة السلاح الخشنة. ولبنان اليوم الذي دخل العصر الفيتنامي قبل 35 سنة لم يتوصل إلى اكتشاف طريقة تنقذه من ذلك المستنقع الذي تورط فيه بناء على قراءات ايديولوجية متسرعة تنافست في ترسيم خريطة وردية لمستقبل أصبح يعتبر من الماضي.
أكثر من 60 في المئة من الشعب الفيتنامي (87 مليوناً) ولد بعد نهاية الحرب والجيل الجديد لا يعرف عن قنابل النابالم الحارقة سوى تلك الحكايات المنقولة عن الآباء والأجداد. وفيتنام التي كانت الخبر الأول عالمياً أصبحت على هامش الزمن بعد خروج القوات الأميركية من أرضها، وهي الآن تطمح أن تؤسس ذلك النموذج الموازي للتجربة الصينية الذي يجمع بين اقتصاد السوق المفتوحة وقبضة حزب ناعمة تدرس بهدوء سياسة توفيقية تجمع الاستثمار إلى جانب التوجيهات المركزية.
إنها مرحلة انتقالية واعدة تنموياً ولكنها في الآن غير قادرة ايديولوجياً على تشريح مفارقة توضح معنى انسحاب الجيوش الأميركية من فيتنام قبل 35 سنة مقابل دخول جيوش المصارف والفنادق والمطاعم ومؤسسات الاستثمار ووكالات التوظيف إلى بلد اكتشفت حكومته في العام 2004 أهمية «التنافس» وحق الإنسان في التملك ودخول مغامرة السوق والتعامل مع دول الجوار وبناء الجسور مع عالم مخالف لكل التوقعات والقراءات والاحتمالات. فالمهزوم يتقدم ويجتاح فيتنام والمنتصر يتراجع ويفتح الأبواب المقفلة.
إنها نهاية تجربة ومخيلة وفترة أحلام خصبة تلاشت مع انكسارات الزمن ولا يعرف إذا كانت سعيدة أو حزينة... ولكنها بالتأكيد تحتاج إلى مراجعة وإعادة قراءة لا للتعرف إلى أخطاء الماضي وإنما لإنعاش الذاكرة وإخضاعها للمقارنة ومنهج النقد. ولأن لبنان لايزال حتى الآن يمر في الطور الفيتنامي على صورة المشهد السبعيني ومثاله كان لابد فعلاً من زيارة فيتنام حتى لو كانت متأخرة عن موعدها 35 عاماً.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3046 - الجمعة 07 يناير 2011م الموافق 02 صفر 1432هـ