الأزمة الفكرية داء خطير، ومرض يشتد خطره أحياناً فتصبح أعصى على الحل، إلى حد أنها تحيل الحلول نفسها إلى أزمات جديدة تضيفها إلى رصيدها البغيض، مثل المكروب القوي، يتفاعل أحياناً مع الدواء تفاعلاً عكسياً محولاً إياه إلى غذاء يستزيد به قوة وفتكاً في الجسم المريض.
التأزيم من خلال توهم رعاية السنة: جمع السنة النبوية المطهرة وتدوينها ووضع قواعد علوم الحديث دراية ورواية مفخرة من مفاخر هذه الأمة ولاشك. ولقد بذل الجهد الكبير من أفواج من علماء السلف ليجمعوا نصوص السنة، ويميزوا الصحيح والضعيف من أخبارها، ويضعوا موازين الجرح والتعديل لتصنيف رواتها، لتصبح سنة رسول الله وسيرته حية خالدة، يستطيع المسلم عندما يقرؤها، أو يطلع عليها أن يعايش رسول الله بقلبه وعقله ووجدانه، كما عايشه أصحابه ومعاصروه. وبذلك يستمر رسول الله (ص) في أداء دور القدوة والنموذج والمثل الأعلى للبشرية في حياته وبعد مماته، وتظل الإنسانية تستلهم من سيرته العطرة وسنته المطهّرة الحلول السليمة لمشاكلها، والعلاج الناجع لأدوائها وقدرات التأسي به في الربط بين قيم القرآن والواقع المعيش، بشكل منهجيّ سليم؛ فالقرآن مصدر كليّ مطلق منشئ للفكر والحضارة والمعرفة، والسنّة منهج للربط بين أحكام القرآن وقيمه وواقع محدّد المعالم، معروف المواصفات، يمكن قياسه والقياس عليه.
أما فهم السنة بجملتها باعتبارها منهجاً كاملاً في صناعة جيل القدوة والأسوة، وفقهها باعتبارها منهجاً كاملاً للتأسي والاتباع، ومعرفة كيفية إقامة بناء الفكر والحضارة والثقافة والعمران على هديها، وبناء الأمة على توجهها، فهذه أمور كان نصيبها من الاهتمام أضعف بكثير، إذ قصرت الجهود التي بذلت في فهم السنة وإدراك مراميها ومغازيها، وفقه السيرة ومعرفة توجيهاتها عن الجهود التي بذلت في مجالات التوثيق والتضعيف وروايات الآثار.
ولو أن الجهود سارت متوازية متعاضدة بين أهل الفقه والفهم وبين أهل الرواية، لأعطت تلك الجهود المشتركة الثمار المرجوة منها، ولم تفترق كلمة الأمّة حول السنّة ولتظافرت الجهود، ففريق ينفي عن السنة ما أضيف إليها، ليقدم نصوصاً صحيحة ثابتة إلى أولئك القادرين على الفقه والفهم والتحليل والاستنباط ليقوموا بذلك كله، ويعالجوا قضايا الحياة على هدي السنة النبوية ونورها ومنهجيتها، فلا تتحول السنة التي جاءت وصاحبها رحمة للعالمين، عند البعض إلى إصر وأغلال يتمرد الناس عليها، ويحاولون الخلاص منها، ولو بنفي حجيتها إجمالاً أو حجية أنواع منها كخبر الواحد ونحوه.
التأزيم من خلال توهم الدفاع عن العقيدة: وشكَّل الانحراف في التعامل مع «علم الكلام» بدوره جزءاً من الأزمة الفكرية، ونموذجاً آخر من نماذج تأزيم الحل. فقد وضع «علم الكلام» في أول الامر ليكون حلاً وجزءاً من عملية الإصلاح الفكري والعقائدي، والدفاع عن العقيدة الإسلامية وتثبيت قواعدها، ولتمكين الخطاب الإسلامي من أدوات الدفاع والإقناع ليعمل عمله في الساحة الفكرية والدعوية، ولكن تعامل عقلية الأزمة حوّله عن قصده وغايته، وجعله جزءاً من الأزمة لا جزءاً من الحل.
وكان من نتيجة الانحراف في هذا العلم ومنهجه، توجيه اهتمام الفاعلين في المجتمع إلى كثير من القضايا، التي شاركت بنصيب وافر في تكريس أزمة الأمة الفكرية وفرقتها، وتبديد الكثير من طاقتها، وتحجيم خطابها والحد من تأثيره، مثل قضية «خلق القرآن» وما خلفته من آثار في المستوى الفكري الثقافي والسياسي، بل وفي مستوى الأمة الحضاري. وقضية مصادر «تقويم الفعل الإنساني» و»الصراع بين النقل والعقل» وغيرها.
التأزيم من خلال توهم العناية بالفقه: نشأت العلوم الفقهيّة، وقامت جهود جمعها وتدوينها في منتصف القرن الثاني الهجريّ، لا لتكون شريعة مع شريعة الله، بل لتكون علاجاً لمشكلات العصر وقضاياه، وفقاً لفقه أئمة تلك العصور وفهمهم، دون تفكير في أن من سيأتي بعدهم سوف يترك شريعة الله جانباً ويقلدهم فيما قالوه أو ذهبوا إليه وفق فقههم وفهمهم وقراءتهم.
وكان قصدهم الأساسي من ذلك الجمع والتدوين تمهيد الطريق لتابعيهم والقادمين من بعدهم، كي يسلكوا السبل التي سلكوها، ممثلة في الاعتصام بالكتاب والسنة والاجتهاد في تنظيم الحياة والتقنين لها، والحرص على مد حاكمية القرآن العادلة، وتطبيق أحكام شرعته على قضايا الحياة جميعها، والتعامل مع مختلف الحوادث المتجددة والنوازل المستمرة، وفقاً لمقاصد الشريعة وغاياتها وكلياتها وقواعدها، للحفاظ على ارتباط الواقع المعيش في سائر الأماكن والأزمنة بأصول الشريعة الحقة ومقاصدها.
فإذا بعقلية التأزيم تُحوّل أقوال الفقهاء إلى شريعة بجانب الشريعة، ويصبح الفقه البشريّ هو الشريعة، وتكون شريعة ذلك الكم الهائل من الأقوال والفتاوى والشروح والتعليقات والحواشي، والتذييلات والآراء الشخصية والأمور الافتراضية والواقعية، سواء تعلقت بوقائع خاصة أم عامة، وسواء أكانت وقائع أعيان أم وقائع أحوال، ليتحول كل ذلك الإنتاج البشري إلى شرع لازم في كل زمان ومكان، يُتّبع أصحابه ويُقلد قائلوه على رغم تنوع الحوادث وتجددها الدائم المستمر.
ولاشك أن لهذه الجوانب المتراكمة تأثيرها في ضعف الخطاب الإسلامي وقلّة فاعليته في المجتمع، وتكريس الأزمة الفكرية لدى الأمة، سواء ما نشأ منها نتيجة خطأ النظر، أو انحراف منهج التفكير، أو تناسي الغايات والمقاصد لحساب الشكليات والمظاهر. فقد أبرز مثل هذا التأزيم، للمعارف التي كانت في الاصل حلولاً، أزمة جديدة، هي أزمة «الفصام بين النظرية والتطبيق» وأصبح ذلك سمة من سمات حركة الأمة بعد انفكاك عرى توثيق قاعدتها العقيدية والفكرية، وحيويتها ووحدتها في التوجه والحركة.
التأزيم من خلال توهم إعادة الاتصال بين النظرية والتطبيق: أقلقت أزمة الفكر الإسلامي وخطابه بعض العلماء العظام الذين تفهموا حقيقة هذا الفصام وطبيعته وأدركوا أضراره، وأنه إذا ما استمر فسيفرغ الإسلام من محتواه، ورأوا آنذاك وجوب العمل ومواصلة الجهود لإعادة الاتصال بين النظرية والتطبيق، وتقديم توجيهات الكتاب والسنة في هذا المجال، والتذكير بسلوك كبار الصحابة والتابعين، لإيجاد نوع من الفهم النقي في قضايا التربية الروحية والتأليف فيها، والحث على النظر في الآثار والمقاصد، وعدم الاكتفاء بالأشكال والمظاهر، فأنتجت هذه الجهود وقتئذ مادة علمية من علوم الأخلاق، وقضية من قضايا السلوك أطلق عليها البعض «علم الحقيقة» لتكون وجهاً آخر لعلم الشريعة، كما أطلق عليها البعض الآخر اسم «التصوف» ولم يكن ذلك إلاّ محاولة مخلصة من أولئك العلماء لإعادة الاتصال بين الحقيقة والشريعة كما كانوا يقولون، أو القضاء على «الفصام بين النظرية والتطبيق»، وإحياء صلة الرحم بينهما، وتجاوز الإطار الشكليّ القانوني الفقهيّ، والنظر إلى الآثار السلوكية المرتبطة بتلك الأحكام وربط كل أمر بمقصده «فالامور بمقاصدها»، وكل وسيلة بما تؤدي إليه «فحكم الوسائل حكم المقاصد». فما لا يحقق المقصود منه لا خير فيه، وإن ظل صحيحاً في مظهره الفقهيّ فأسقط الفرض أو حقق الواجب.
ولكن هذا العلم تعرض لتأثيرات الأزمة الفكرية (شأنه شأن ما ذكرنا من علوم برزت في أول أمرها علاجاً لأزمة قائمة، وسياجاً واقياً من هجوم أزمات قادمة لاحت عواصف ريحها، فإذا بالأزمة الفكرية بكل ثقلها تنعكس عليها وتحولها إلى جزء من الأزمة، لا جزءاً من الحل)، وإذا بالتصوف يصبح باباً تدخل منه كثير من انحرافات الأمم الأخرى، ويصبح في كثير من جوانبه دعوة للعزلة والانصراف نحو القضايا الفردية، وإهمال القضايا الجماعية وقضايا الأمة، والإغراق في نوع آخر من الشكليات والسلبيات، فأضاف لأزمة الأمة أبعاداً جديدة، وللعقل المسلم شواغل من نوع آخر.
فأضحى قطاع كبير من الأمة مشلول الطاقة، محدود الفاعلية، فضلاً عن اتهام هذا التوجه - عندما أصابه الجمود ثم التحول - لكل نشاط وفعل وفعالية بالانغماس في أمور الدنيا وترك أمور الآخرة، وتناسي كثير من قيادات التصوف المتأخرين القواعد الأساسية التي أكد عليها أئمة التصوف الاولون بأن الدنيا مزرعة للآخرة، ومجال العمل الصالح تمهيداً لدار الحساب والجزاء، ومجال للعقل والفاعلية، وحمل الأمانة وتبليغ الرسالة، والقيام بحق الاستخلاف وواجب العمران وفريضة الشهود الحضاريّ.
إقرأ أيضا لـ "طه جابر العلواني"العدد 3045 - الخميس 06 يناير 2011م الموافق 01 صفر 1432هـ