نبيل علي صالح - كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
وهنا يشدد التقرير على أنه وقبل الإقدام على استثمار أموال ومبالغ طائلة لزيادة إمدادات المياه، لابد من تنفيذ تدابير أقل كلفة لتخفيض خسارة المياه، وتحسين كفاءتها. وهو ما يعني ضرورة إعادة النظر بدور الحكومة، فيتحول من التركيز على دور المزود للمياه إلى دور الهيئة الناظمة والمخططة. ويضع التقرير شرطاً مهماً لتفعيل إدارة الموارد المائية على نحو مستدام، وهو ضرورة العمل على توسيع نطاق المعرفة حول المياه الجوفية والأراضي الرطبة والمستنقعات والبحيرات وأحواض الأنهار. إضافة إلى أنه توجد هناك العديد من تكنولوجيات الاستشعار عن بعد التي يمكن أن تساهم بمعلومات قيمة لإدارة أنظمة المياه الطبيعية واستكشاف مصادر المياه الجوفية. وينتهي التقرير إلى التحذير من أن الواقع المائي للعرب لا يحتمل خسارة نقطة ماء واحدة. ما يحتم على الحكومات القائمة أن تبادر من فورها إلى ما يلي: تطبيق سياسات مستدامة لإدارة المياه، تقوم قبل كل شيء على الطلب لتأمين استخدام أكثر كفاءة، بحيث يمكن تحقيق هذا عن طريق فرض قيمة اقتصادية على المياه، يتم قياسها وفق القيمة الفعلية للمنتج النهائي استناداً إلى كمية المياه المستخدمة.تطبيق تدابير لفرض استخدام المياه بكفاءة، والتحول من استخدام الري بالغمر إلى أنظمة أكثر جدارة مثل الري بالتنقيط، وإدخال محاصيل تحتمل الملوحة، وتتطلب كميات أقل من المياه. تدوير المياه وإعادة استخدامها. تطوير تقنيات وتكنولوجيات رخيصة للتحلية. العمل على مزيد من الأبحاث العلمية والتعاون العلمي على المستوى الإقليمي لمجابهة تحديات الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ. مقاربة التقرير من زاوية سياسية: لاشك بأن التقرير الذي استعرضناه يعطي ويقدم لنا جميعاً صورة قاتمة عن الواقع المائي العربي (وهو جزء من واقع أشمل أكثر تخلفاً وتأخراً) الذي دخل فعلياً منذ وقت ليس بقصير في أزمة مياه حقيقية، نتيجة عدم وجود تخطيط ودراسات جدية عربية حول موضوع إدارة المياه في الأراضي العربية، ما أدى إلى وجود حالة شبه استخدام جائر واستنزاف أرعن لهذا المورد المهم والحيوي... وحالياً لا يوجد بلد عربي إلا ويشتكي من قلة توفر المياه، خاصة مع حدوث تغيرات كبيرة في نظام الطقس والمناخ أدت وتؤدي باستمرار - من جملة ما تؤدي إليه - إلى ظاهرة انحباس الأمطار التي تشكل أحد أهم المصادر للمياه الجوفية والمياه التخزينية في السدود التي يمكن أن تستخدم في الري والسقاية وحتى للشراب بعد معالجتها طبعاً.
الأسئلة المطروحة هنا هي: هل يمكن أن تبادر النظم والحكومات السياسية العربية إلى اتخاذ الإجراءات العملية والسياسات اللازمة الفاعلة والمؤثرة، لبدء السير على طريق معالجة هذا الملف الخطير والذي بدأ ينذر بعواقب وخيمة على حاضر الإنسان العربي وحتى على مستقبله خاصةً مع ما بتنا نسمعه ونقرأه - منذ سنوات قليلة - من قلة المحاصيل الزراعية الإستراتيجية كالحبوب والقمح في بعض البلدان العربية التي تحولت - خلال فترة زمنية قصيرة - من منتج ومصدر للقمح إلى مستورد له؟ وهل لدى تلك الحكومات الإرادة الجدية والعزيمة والأسس والمعايير العلمية للبدء بخطط مواجهة تحديات أزمة المياه العربية؟
إننا نعتقد أن المؤتمرات والندوات التي تقيمها كثير من تلك البلدان للتحذير من مخاطر أزمة المورد المائي العربي لا تكفي، ولا بد من العمل على الأرض أولاً وقبل أي شيء آخر، أي لا بد من البدء بمعالجة هذا الملف الشائك، ملف أزمة المياه العربية (على ضخامته وتعدد وجوهه) من تطبيق وإجراء إصلاحات سياسية ومؤسساتية في داخل الإدارات والمؤسسات في داخل النظم السياسية العربية... لأنه حتى اللحظة لاتزال للأسف معظم تلك السياسات العربية المطبقة في البلدان العربية لمواجهة التحديات المصيرية المستقبلية المتصلة بأزمة المياه، لاتزال مجرد حبر على ورق، وكل المؤتمرات التي تعقد للبحث عن حلول ناجعة لأزمة المياه العربية سرعان ما تنتهي مفاعيلها بمجرد مغادرة الحاضرين مقاعد جلوسهم للأسف الشديد... وهذا حقيقةً أمر غير مستغرب في ظل وجود مؤسسات رسمية عربية مترهلة وغير مخططة، وعاجزة عن إدارة شئون مواطنيها (أقصد رعاياها! لأننا لم نرقَ بعد لتطبيق مفهوم المواطنة الحقيقي)... إضافة إلى هيمنة العقلية البيروقراطية الانتفاعية التكسبية المستبدة على طبيعة المؤسسات والإدارات السياسية وغير السياسية الرسمية العربية القائمة التي ليست مهتمة - بمعظمها - سوى بأمرين اثنين البقاء في الحكم ومراكمة الثروات… ومنه تطرح فكرة جدوى وأهمية التفكير في خصخصة عملية استخراج وتحلية وتوزيع الماء وتشجيع المنافسة في هذا المجال لتحسين جودة هذا المنتج الحيوي، وخفض تكاليفه أسوة بالتجارب الناجحة في هذا المجال في عدد من الدول الغربية والأسيوية والإفريقية. والتي قامت بتدارك التبذير ونزيف موازناتها بخصخصة جزء من هذا المجال. ويبدو لي أنه وفي المدى المنظور - وكنتيجة طبيعية لانهماك العرب في السلطة والصراعات السياسية القبلية واستنزاف جهدهم وطاقاتهم في هذا المجال - لا توجد حلول جدية فاعلة على الأرض لأزمة المياه العربية خاصةً في ظل تفاقم الانقسامات الأفقية والعمودية العربية، وحالة الترهل السياسية التي يقبع بداخلها معظم العرب والمسلمون للأسف... وفي ظني أنه سيحدث لأزمة المياه، ما حدث سابقاً، ويحدث حالياً للثروة النفطية التي درّت على بعض العرب أرقاماً مالية خيالية، لم يعرف العرب استثمارها في اتجاهها الصحيح على مستوى قيام نهضة علمية بحثية حقيقية شاملة وليس فقط مجرد نهضة عمرانية فقط تعيشها كثير من تلك البلدان (سبق أن سماها أحد الأدباء بمدن الملح!)... فالعلم (الذي لا توجد ثقافة في العالم حثت وحضت عليه كالثقافة الإسلامية كما يقول معظم أتباعها) هو أساس بناء الحضارات والمجتمعات والأمم، ليس العلم المستهلك المستورد والمشترى من عند الآخرين، ولكنه العلم النابع من وجود أرضية وأسس ومعايير علمية وبنى تحتية عربية حقيقية في داخل تلك البلدان التي أنهكها التخلف العقلي والفكري، والقبلية السياسية والاجتماعية، والاستبداد السياسي والديني، واستمرار هيمنة هوية (وعقلية) الخوف من الآخر.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3042 - الإثنين 03 يناير 2011م الموافق 28 محرم 1432هـ