العدد 3039 - الجمعة 31 ديسمبر 2010م الموافق 25 محرم 1432هـ

تضخّم غريزي في العراق نحو القتل والجريمة المُنظّمة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في الأزمات تبرُزُ عادة المُلِمَّات الأكبر. تلِيها الكبيرةُ والمتوسّطةُ والصغيرة. جميع تلك المقاسات والأحجام تنتهي إلى عنوان واحد أوحد هو أنها «مُلِمَّات» وفقط. هذا ما يجري في العراق منذ الاحتلال الأميركي له في أبريل/ نيسان من العام 2003. وربما شاءَت الأقدار أن تُنسي العمليات الإرهابية فيه من قَتل وتفجير وسيارات مُلغَّمة ما يعْتمل في باطنه الاجتماعي من بلاءات وعُقَدٍ نفسية واندِيَاح غريزي غير معهود باتجاه العنف القاسي والقتل والانتقام بين ناسه بدمٍ بارد.

في السابق كنتُ أقول: إن طبيعة المجتمع العراقي العشائري ستُفضي إلى صِيَغ مُفجِعة من الانتقام البيني نتيجة لطبيعة التاريخ العشائري في المنطقة والممتد على طول منطقة الهلال الخصيب ومنطقة الخليج، لكنني اليوم وعندما أقرأ عن مصالحات عشائر ديالى والأنبار وصلاح الدين، وعضِّهِم على الجراح في سبيل الحفاظ على اللُحْمة الوطنية، بدتُ أصدّق أن هذا المخزون العشائري يُمكن أن يُدوِّر ويبتلع نَقَمِهِ المُبَرَّز، في حين أرى كيف ينغمس المجتمع العراقي غير العشائري في أقسى أنواع القتل الخارج من بين تشققات الإرهاب، والنامي على يمينه ويساره والذي يعني فيما يعنيه أنه يصبّ كله نحو تحويل المجتمع إلى غريزة البطش.

تحدَّثتْ إحدى الناجيات من مجزرة كنيسة سيّدة النجاة التي وَقَعَت مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في بغداد، وخلّفت 52 قتيلاً و67 جريحاً بشكل غريب. تقول إنها وبينما كانت هي ومجموعة من الرهائن محتَجَزين في غرفة بداخل الكنيسة، أرادت إحدَى المُحتَجَزَات أن تتناول طفلها من يدِ مُحَتَجَزة أخرى كانت لحظة الاقتحام قد فرّقتها عنه، فما كان من أحد الإرهابيين الذين كانوا يحرسون الغرفة والرهائن إلاّ أن أطلق النار على الأم وولدها فأرداهما قتِيْلَيْن. تكرّر الأمر ذاته مع مُحتَجَزة أخرى كانت قد نَمنَمَت شفتاها ببضع كلمات مع مُحتَجَزة تجاورها في نفس المكان، رغم أن مُحيَّاهم (أي الجُناة) لا ينمُّ عن أيّة إشارة إلى أنهم أناسٌ مجرمون أو قَتَلَة، بل إن هيئتهم تُوحي على أنهم شباب أسوياء ناضجون.

تكرّرت هذه المشاهِد في البصرة وبغداد والأنبار. وقد استخدم تنظيم القاعدة العديد من الصِّبية في مشروعات قتل وتصفية لأقارِبهِنّ كالآباء والأمهات والاخوة لانتسابهم لقوات الجيش أو الشرطة، بل وفي مواطِن كثيرة لعَدم وقوفهم مع التنظيم في معاركه المفتوحة. بالتأكيد قد تكون الدوافع هي عقيدية وايدلوجية، لكن جزءاً منها له مُحفِّزات تتعلّق بالمادة ودفع الأموال كَرِشاً، ليس آخرها انتساب ستة من الشيعة من الناصريّة إلى تنظيم القاعدة المعروف بتباينه الشديد والتّام مع المذهب الإثني عشر، بل ويُكفِّر كل منتسبيه دون فَرْق.

قبل مُدّة اختُطِف طفل من مدينة الصّدر. وعندما لم تستطع أسرته دفع فدية لخاطفيه قُدّرت بـ 100 ألف دولار، عُذِّب الطفل، ثم بُتِرَت يداه، وتمّ قطع رأسه، ورُمِيَت جثّته في مكَبّ للقمامة. وفي الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي اختُطِفَ الطفل حمودي صالح ذياب سمير (ثلاث سنوات) من قرية اسديره في الشرقاط بمحافظة صلاح الدين (غرب) عندما كان يلعب بجوار منزله في آخر ساعات النهار. وبعد أيّام وُجِدَت جثته مدفونة في أحد فناءات مَعْمَل عائلته دون أن يكتشفوا أيدي القَتَلة ولا هوياتهم، ولا الغرض من تلك العملية البشعة.

في منطقة الدّورة قام اثنان من المسلحين باقتحام أحد المساكن، فذبحوا الأب وفصلوا رأسه عن جسده أمام أعين ذويه، ثم قطعوا رأس ابنته التي لم يتجاوز عمرها عاماً واحداً، وقبل خروجهم بمسروقات البيت جرحوا الزوجة وابنها الصغير، بإصابات مُتفرقة في الرأس. بالتأكيد فإن هذه الأحداث هي ضمن عشرات العمليات من القتل المقصود.

وقد أظهرت إحصاءات وزارة الداخلية العراقية مؤخراً عن مُعدّل قتل مرتفع في المحافظات العراقية. فقد شَهِدَت محافظة الموصل في الشمال 277 عملية قتل، في حين شَهِدَت محافظة كركوك 38، أما صلاح الدين فشهدت 19 عملية قتل، وديالى 53، وبابل 13، وواسط 6، أما العمارة في الجنوب فشهدت ثلاث عمليات قتل، والبصرة 17، ذي قار 2، ومحافظة النجف الأشرف العاصمة الدينية للعراق شهدت ثلاث عمليات قتل، والديوانية 7، أما محافظة الأنبار في الغرب فقد شهدت سبع عمليات قتل. وقد بيّنت الأشهر الأولى من العام 2010 أن معدل القتل بمثل هذه الشاكلة قد ارتفع بشكل ملحوظ في عُموم العراق سواء في الجنوب أم في الشمال.

المشكلة في ذلك المنسوب المتصاعد من الجريمة أنه لم يعُد مُقتصراً على العصابات والجماعات المُنظّمة. فبعض الجناة هم من منتسبي الشّرطة بل والحرس الخاص كما حصل لبنك الزوية في بغداد والذي تورّط فيه الحرس الشخصي لنائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي. كما أن بعض المُجرمين هم في الحقيقة منتسبون إلى أحزاب معروفة وصاحبة نفوذ داخل السلطة، وتتم أعمالهم الإجرامية تحت غطاء من تلك الأحزاب، وحين تتمّ المحاسبة أو تقديمهم للمحاكمة تعتبر تلك الأحزاب بأن ملاحقتهم ما هي إلاّ تصفيات سياسية أو كيدية، فتُوعِز لأحد أنصارها في مصلحة السجون أن تُهرّبهم إلى الخارج بطريقتها الخاصة.

أضِف إلى ذلك أن التسويات السياسية الجارية في العراق عادة ما تُفضي إلى مُصالحات مُشوَّهة. فمثلاً وفي سبيل حصول نوري المالكي على تأييد التيار الصّدري قام بإطلاق أكثر من سبعين ألف منتسب غير مُعتَرَف بهم رسمياً داخل التيار لكنهم من أنصاره ومن الذين خاضوا معارك معه، وهم في أغلبهم من المناطق الجنوبية وغير متعلّمين وجَهَلَة ولهم نزعة إجرامية واضحة صَقَلتهَا أيام وجودهم لمُدد طويلة داخل عصابات نهب وقتل مُنّظمة نشطت خلال الحرب الطائفية التي اجتاحت العراق منذ العام 2005 وحتى العام 2008.

الخلل الاجتماعي في العراق بات خطيراً بوجود مليوني أرملة وخمسة ملايين يتيم ومُشرّدين بالملايين. وقد أظهرت عمليات الرّصد أن أطفالاً عراقيين باتوا عُرضة للتهريب لإحدى عشرة دولة بغرض استعمالهم في عمليات البغاء والتسوّل وتهريب المُخدرات والسرقة وبيع أعضائهم في سوق الاتجار بالبشر. كما أن العديد من النساء بتن يمتهن الزنى نظير أموال يحصلون عليها في ظل الفقر والفاقة، والعديد من الأطفال باتوا يُستعملون في الداخل من قِبَل أبناء الذوات.

هذا الملف بالإضافة إلى ملفات أخرى غير الإرهاب باتت حاضرة في هموم العراقيين اليوم. وربما أصبحت جميع تلك الملفات حالات مُستعجلة تتطلب حلولاً ومعالجات لا تقبل التأخير. لأنها باختصار عبارة عن مشكلة مُركَّبة تختلط فيها الأمور الاجتماعية والنفسية والحقوقية والأمنية إلى أبعد الحدود.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3039 - الجمعة 31 ديسمبر 2010م الموافق 25 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 8:16 ص

      القتل كله من الشيعة وميليشياتهم

      اكثر القتل من الشيعة وميليشياتهم وتنظيم القاعدة
      هذي مشكلة لازم يحلونها الشيعة في العراق

    • زائر 3 | 4:45 ص

      اضواء المدينة

      العراق تحولت الى بركة دماء ويعود الفضل لامريكا والاحزاب السياسية تصفية جسدية ومحاصصة تحت الطاولات وشعب مقيد لا يدري اين يصل ؟
      كتم الافوة بالقوة باسم الدين الحلال والحرام - تقييد الحريات وكلها سنة سوف تتحول العراق الى دولة دينية دكتاتورية تمسك دفتها المراجع اي ديمقراطية هذا ؟؟ رئيس وزراء فرض نفسه بقوة الملشيات المسلحة ورشاوي من خزينة البلد بعد اغلاق النوادي سوف نرى الجلد والرجم في الشوارع ( رحم الله صدام حسين ) الذي يؤمن بالوطنية وان كان دكتاتور

    • زائر 2 | 1:37 ص

      صدام وغير صدام

      صحيح أن ما جرى هو كارثة لكن الكارثة الأكبر هي وضع العراق السابق في عهد صدام حسين الذي كان يذبح الوطن والمواطنين بدكتاتوريته وجشعه بالسلطة . ولك الشكر الجزيل على ما تكتب من مقالات أكثر من رائعة التي هي مكسب للوسط

    • زائر 1 | 1:34 ص

      التغيير وضريبته

      عزيزي الأستاذ محمد
      مأساة العراق ستنتهي وما هذه الدوامة من العنف سوى إفراغ لكل الشحنات والضرائب التي تحتاجها حركة التغيير التي تحدث

اقرأ ايضاً