في بعض المجتمعات العربية، يَندُر أن تجد من يقول لك «أنت ناجح» ولكن من السهل أن تجد من يقول «أنت مخطئ» وهذا أحد أسباب التراجع العربي. ولذلك لا يشعر غالبية المبدعين في تلك المجتمعات بالأمان المعرفي، ويسعون إلى استرضاء طائفة فكرية معيّنة حتى يجدوا لديها تشجيعاً أياً كانت صيغته. فيتحول المبدعون في هذه الحال إلى نسخ مكررة، تُردد نفس الشعارات، وتستشهد بنفس المقولات التي يتداولها مَن حولهم. لا أؤمن بالأمثال كثيراً، وقلّما أستخدمها في حياتي، فالأمثال تجارب إنسانية لبشر مروا قبلنا، قد يخطئون وقد يصيبون، وكلامهم ليس من التنزيل حتى يُنزَّه عن الخطأ. إن كثرة جريان (بعض) الأمثال على ألسنة الناس يبعث في المجتمع بلادة فكرية، وقناعات زائفة، تعطّل الإبداع، وتئده قبل بلوغه سن الرشد.
هؤلاء الذين يرددون ما يسمعون دون أن يعوا حقيقة ما يقولون، هم النّمطيون، فالنمطي يحب تكرار الأقوال، والأفعال، والهوايات، حتى قائمة طعامه لا تتغير إلا نادراً. لا تحب هذه الفئة النّقد بكل أنواعه، بل تنظر إلى الأفكار نظرة المرتاب، وترمي أصحابها إما بالخروج عن الأعراف، أو بمحاولة تضييع أوقات الناس.
النمطيون يكررون أنفسهم كثيراً، يبدأون من نقطة ما، وينتهون عند نفس النقطة، ثم يشعرون بالسعادة لأنهم يعتقدون بأن سعيهم قد قادهم إلى نتيجة. والنمطيون لا يملّون، لأنهم لا يعرفون غير الملل عملاً، ويعتقدون بأن السلام كامن في البساطة، ولا يدرون بأنهم يخلطون بين البساطة وبين السطحية. البساطة أن تقوم بعمل عظيم دون تكلّف، والسطحية ألا تقوم بأي عمل.
يمكنك أن ترى نمطية المجتمع عندما تذهب إلى السوق. حدّق جيداً وسترى نفس الأشخاص يجلسون في نفس المقهى، ويقومون بنفس الإيماءات، وينظرون إلى نفس الزوار كل أسبوع. الشيء الوحيد الذي يتغير في هؤلاء هو نوع الملابس والمجوهرات التي يلبسونها، وحتى هذه تكون نمطية في أغلب الأحيان.
يمكنك معرفة الإنسان النمطي عندما يسألك «كيف الحال» أكثر من مرة، ثم لا يملّ من سماع نفس الإجابة. فالنمطي لا يبحث عن حلول، وإن بحث، فإنه يصل إلى نفس النتائج، لأنه يطرح نفس الأسئلة. عندما ينتشر وباء النمطية في مجتمع ما، تسوده البلادة، ويغزوه الجهل. النمطي يقرأ ما أُريدَ له، لا ما يُريد، ويُناقش مثلما تعلّم في المدرسة وفي الجامعة، بصمت مُجحف، يُصاحبه رضى مزيّفٌ عن الذات.
النمطيون لا يحبون أصحاب الأقلام، ولا أصحاب الفُرش المُلوّنة، فالألوان عندهم لونين، أبيضٌ وأسود، لا يؤمنون بمزجهما حتى لا تكثر المساحات الرمادية في حياتهم، فاللون الرمادي بالنسبة لهم هو خروج عن المألوف، وهو حيرة تشتت تركيزهم المنصَب على الكسل. يتحول القلمُ في يد النمطي إلى بندقية ضد كل من يخالفه الرأي، فالبندقية أكثر نفعاً كما أخبروه، لا كما قرأ. يخوض النمطي نفس المعارك، ليحصد نفس الغنائم. إن من يحمل قلماً عليه ألا يخشى ممن يحمل بندقية، فالأقلام لا تصدأ، والبنادِقُ لا تُوَرَّث.
يؤمن النمطي بأن الحياة وُضعت لفتنة الإنسان، ولا يدري بأن الإنسان هو الذي يفتن الحياة، بِنِيّته، وبعمله أيضاً. يسعى النمطيون إلى اكتشاف حياة ما بعد الموت، وينسون أن يكتشفوا حياة ما قبل الموت. هؤلاء لا يخشون الجهل، بل يخشون المعرفة، ولذلك لا يعرفون كيف يتعاملون مع أصحابها، فيلجأون إلى العنف اللفظي أو الجسدي.
إن وأد الأفكار واغتيال الآراء وإخماد الحوارات البنّاءة، هي أفعال نمطية يُتنطع بها بحجة الحفاظ على عقول الناس، ولكن العقول لم تُخلق لكي تُراعى مثلما تُرعى البهائم، بل خُلقت لكي تنطلق وتفكّر وتضجّ فيها أصوات الأفكار المتعاركة... العقول ساحات حربٍ خصبة للأفكار، وكلّما تعاركت الأفكار في داخل الإنسان، كلما عَمّ السلام خارجه.
النمطيون لا يسألون الله إلا حُسن الخاتمة والنجاة من النار، وينسون أن يسألوه علماً وفهماً وعملاً وتطوراً وبنية تحتية وتكنولوجيا حديثة واستقراراً سياسياً واقتصاداً متيناً، فالموت عندهم راحة من كل هذا. النمطيون يبنون بيوتاً، ولكنهم لا يبنون مدينة، يزرعون شجرة ولا يزرعون حديقة... النمطيون لا يعلمون، ولا يريدون أن يعلموا، ويُحبون أن يُصنّفوا ما يجهلونه تحت باب «عِلمٌ لا ينفع». النمطية داء حضاري، يورِث الدّعة، ويدعو إلى الاستسلام والتسليم. الاستسلام لا يحقق السلام، العمل الصادق وحده يمنح الإنسان سلاماً فوق الأرض وتحتها.
النمطية عبودية شفافة، لا يراها الإنسان إلا عندما يبدأ بالتلوين. لوّن حياتك، ولا تخشى أن يُقال عنك مجنون، فذروة العقل الجنون. لوّن حتى يعرفك الناس، وحتى تعرف نفسك.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3039 - الجمعة 31 ديسمبر 2010م الموافق 25 محرم 1432هـ
=)
النمطيون هم معظم المجتمع والمبدعون هم الحالات الشاذة في عالم مابعد الثلاثين... فما ان يكبر الانسان حتى يذهب نحو النمطية كدائرة أمان.
لن أسمح للنمطية أن تؤطر كهولتي ... ثم سأصير عجوزا مبدعة تعلّم أحفادها الإبداع ... لا الانصياع !
الضعفاء
ما اشرته في مقالك هو توصيف لفصيلة الضعفاء في مكوننا الاجتماعي والضعفاء في مجتمعنا هم الفئة غير القادرة على الابداع صناعة الجديد وتنقسم هذه الفئة الى نوعين حسب الاتي:
النوع الاول هم الافراد المسيطرين وغير القادرين على انتاج الجديد ويعملون على اعاقة من حولهم واحباطهم ليبقوا سائدين ومسيطرين
النوع الثاني الافراد الذين لايملكون الكفاءة في الابداع ويقلدون بل يستنسخون ويسرقون افكار الغير ويسوقونها كما هي ليحافظوا على وجودهم الاجتماعي او الوظيفي
وتلك الظواهر عامل تخلفنا
استاذ ياسر
تصدق أستاذ
في بعض الأحيان كل ما ابي اسوي شغلة او عملية معينة
يطلع لي شخص و يقول لاااااااااااااا مو جذي!!
ويحبطني
وانا متأكد من قناعاتي إن الشي صح!
بس شتقول
الله كريم
سلمت أنامل إبداعاتك
حقاً كل يوم أزداد في كتاباتك اعجابا
انت إنسان مبدع
شكراً ، انت حقاً كاتب أكثر من رائع .
ربط مقالاتك بالواقع ، هي الأفضل ما قرأت