لا يني السؤال العنيد «أين الخلل» يحتل قلب السجال التاريخي الذي يواجهه العرب تحديداً والمسلمون بشكل عام على مدار القرنين الماضيين: هل يكمن الجواب في العطب الداخلي أم في التدخل والأطماع الخارجية؟ هناك مقاربات وإجابات عدة على هذا السؤال لكن أغلبها يحيل مسئولية التأخر التاريخي الذي نواجهه إلى العوامل الخارجية والاستعمار والتدخلات المستمرة.
هذه السطور وكاتبها أكثر ميلاً إلى رأي الأقلية الذي يعزو التردي العام إلى الاختلالات الداخلية والضعف البنيوي الذي لحق بمجتمعاتنا وثقافتنا واجتماعنا السياسي، والذي جعل المنطقة فريسة سهلة ومغرية للآخرين.الأطماع الخارجية والحروب والغزوات والاعتداءات بين الدول ونهب ثرواتها بشكل فج أو «دبلوماسي» هي ديدن العلاقات والسياسة بين الدول منذ فجر التاريخ. إذا كانت هناك دولة أو حضارة قوية تجاور دولة أو حضارة ضعيفة فإن الأولى تطمع في نهب الثانية والسيطرة عليها. هذا قانون قريب من القوانين الفيزيائية والتجربة التاريخية تدعمه من دون انقطاع. المشكلة الأساسية تكمن في تفاقم الضعف والذي ما إن يحدث حتى يغري الأقوياء بالقدوم والتدخل.اللوم الأساسي على صاحب البيت الذي ترك أبواب بيته ونوافذه مشرعة للغرباء والناهبين.
في السياق العربي والإسلامي نرى كيف اشتغل هذا القانون بطريقة صارمة. في مرحلة ما قبل الإسلام كان الضعف والتفرق هو السمة الأبرز عند عرب الجزيرة، وهو الذي خلق فرصاً وثغرات للفرس والروم للسيطرة على العرب وإخضاعهم. عندما قوي العرب، أي عالجوا ضعفهم الداخلي وتوحدوا في حقبة الرسالة الإسلامية تغير الوضع، وتمكنوا من صد الغزاة. وعندما امتلكوا من القوة والنفوذ ما يمكنهم من غزو الآخرين الذي ضعفوا بدورهم وعانوا من هشاشة داخلية فإن المسلمين لم يفكروا مرتين في غزو البلدان الضعيفة وفتحها والسيطرة عليها. الضعف هو الذي يغري الغازي، ولا نستطيع أن نقول للعوامل الخارجية توقفي عن الاشتغال حتى تعطينا فرصة للنهوض. النهوض يتم في خضم الصراع، لكن جذره ومنطلقه الأساس داخلي. يقود هذا إلى التأمل في مفهوم الإصلاح ومن أين نبدأ وفيما إن كان من الضرورة أن ينطلق من إصلاح الفكر الديني أم من خارجه، وهذا يستلزم نقاشا طويلا. لكن يمكن القول باختصار ان هناك مقاربتين الأولى هي شرط الابتداء بإصلاح الفكر الديني على غرار ما حصل في أوروبا والإصلاح البروتستانتي، والثانية الانتفاض تماماً عن هذا المسار واختصار الوقت. والمقصود تفصيلاً بالمقاربة الثانية هي أن خلاصات الإصلاح الديني والعقود وربما القرون التي يستنزفها ستقود إلى نهايات شبيهة بالتجربة الأوروبية في تحييدها للدين عن الفضاء العام وفصله بمساحات مريحة عن السياسة. لماذا إذاً نريد تضييع وقت ثمين حتى نصل إلى نتيجة معروفة سلفاً، وهي النتيجة الإنسانية الوحيدة التي يمكن أن تفض الاشتباك وتطلق الطاقات إلى المستقبل؟
ربما يقول البعض إن الحل الثاني نظري وأكاديمي وان الرأي العام لن يستجيب له بسرعة، ولا بد من الانخراط في الإصلاح طويل المدى، وهو قول فيه وجاهة كبيرة. لكن هذا لا يعني نقضه تماماً وعدم التفكير فيه. وعلى العموم ربما يمكن التجرؤ والزعم بأن تاريخ التسييس الإسلامي منذ وفاة الرسول(ص) وحتى انهيار الدولة العثمانية، ثم التسييس الإسلاموي الحركي الذي نشهده الآن في حقبة التيارات الإسلامية، هو تسييس علماني في جوهره، ديني على السطح والشعارات.
كل تجارب الخلفاء والأمراء والدول الإسلامية والدويلات والحركات الإسلامية محركها الأساسي في نهاية المطاف هي المصالح فيما تأتي الأيديولوجيا الدينية في المرتبة الثانية، سواء أكان إنجازها هدفاً اصيلاً أو استخدامها كان تبريراً ذكياً. الأيديولوجيا تطلق المشروع في بداياته، والسياسة تتسلم زمام القيادة وتنحي الأيديولوجيا من دون تردد.عندما تكون المصالح السياسية، والنخبوية، والاقتصادية، والسلطوية هي التي تقود الحراك السياسي فنحن أمام علمنة للعلاقات التي تنظم الصراع والتعاون بين الشرائح والقوى المختلفة.
لكن الاعتراف بهذه الحقيقة يراه كثير من الإسلاميين وكأنه خروج عن الإسلام الذي هو أكثر الأديان دنيوية وعلمانية وأشدها صراحة بالاعتراف ببشرية البشر ومصالحهم الآنية.احدى العقبات الكبيرة في وجه هذا الاعتراف لفظية وتكمن في تعبير «العلمانية» الذي شهد تشويها مريعاً، وتنسب إليه كل الشرور. بينما هي الصيغة التي كفلت وتكفل تعايش المجموعات المختلفة وتضمن الإطار العام للاجتماع السياسي، وكانت موجودة فعلا في حقب واسعة من التاريخ الإسلامي وإن لم تكن معروفة لفظا.
وأحد تمظهرات التعلمن الإسلامي في التاريخ الإسلامي هو التنوع الغني الذي شهدته المجتمعات الإسلامية في سياق تطبيقها للإسلام ومواءمته مع الظروف المحلية. وهنا نرى نشوء صيغ من الإسلام العربي، والإفريقي، والآسيوي، وحاليا الأوروبي، والأميركي. هذا التنوع في صيغ الإسلام استجابة طبيعية للظروف الموضوعية التي يتواجد فيها المسلمون. نعرف جميعاً أن الشافعي وكبار فقهاء المسلمين كانوا يغيرون آراءهم عندما ينتقلون من منطقة إلى أخرى. وهذا يعني أن هناك صيغة فقهية وإسلامية مختلفة تناسب كل فضاء جغرافي وديموغرافي وسياسي وتاريخي.لم يذهب الشافعي بأحكام تبناها في العراق أو الشام وأراد أن يفرضها على سكان ومسلمين يعيشون في مصر آخر ولن يقبلوا بها.
على ذلك فإن التحديات والظروف التي يواجهها المسلمون في الغرب مثلاً هي غير تلك التي يواجهها مسلمو البلدان الإسلامية. فضلاً عما سماه كثيرون ضرورة بروز «فقه الأقليات»اي الفقه الخاص بالمسلمين عندما يكونون أقلية في بلاد غير مسلمة، وهذا أمر حديث في تاريخ الإسلام. تاريخياً كان السؤال المطروح هو العكس: أي إيجاد فقه يُعامل الأقليات غير المسلمة في بلاد المسلمين.
التجربة التاريخية تنقض المقولة الأيديولوجية التي يكررها من دون وعي كثير من الإسلامويين والقائلة إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. لكل زمان ولكل مكان اشتراطاته، وحتى في الفضاء الإسلامي نفسه فإننا نرى تطبيقات وتفسيرات مختلفة للإسلام، فالإسلام التركي غير الإسلام السعودي، غير الإسلام الإندونيسي، غير الإسلام السنغالي، غير الإسلام الأوروبي. وهذا كله طبعاً مُضافاً إليه الإسلام السني والإسلامي الشيعي وهكذا. وهكذا نحن اذاً أمام خيارين: إما أن نقر بكل هذه الصور والتنويعات للإسلام باعتبار كل منها ناتجاًَ عن تفاعل مع المحيط والظروف التاريخية الخاصة به، أو أن ننخرط في حرب فكرية وسياسية أهلية هدفها إثبات أن هناك صيغة واحدة ووحيدة من الإسلام، ومحاولة فرض تلك الصيغة على بقية الصيغ باعتبارها هي النقية وباقي الصيغ ملفقة ومارقة، وهي حرب أكلافها باهظة وفوق التصور والأهم من ذلك أنها أبدية ولن تنتهي.
إقرأ أيضا لـ "خالد الحروب"العدد 3038 - الخميس 30 ديسمبر 2010م الموافق 24 محرم 1432هـ