حصدت الحرب الأهلية في جنوب السودان (1955-1972 و1983-2003) ما يزيد على مليوني قتيل، وأعدادا أخرى لا تحصى من الجرحى والمعوقين. وكان نصيب الهجرات الداخلية الناجمة عنها ضعف أعداد القتلى، فقد تشرد أربعة ملايين سوداني وأصبحوا لاجئين داخل وطنهم. أما من ضاقت بهم سبل العيش بين ربوع الوطن وقرروا النزوح إلى البلدان المجاورة - وهم يعيشون ظروفاً غير إنسانية- فقد بلغ عددهم نحو 420 ألف لاجئ.
هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى والمهجرين خلق ثارات وعداوات كثيرة، وتسبب في مشكلات اقتصادية، واجتماعية سلبية لم يعهدها المجتمع السوداني بهذه الكثرة من قبل وخصوصا في الريف، منها تزايد الأنشطة الخارجة عن القانون مثل سرقة المواشي وتهريب العاج والذهب والأحجار شبه الكريمة واحتكار السلع للربح منها وانتشار تجارة الأسلحة بين المليشيات القبلية.
وكبدت الحرب الاقتصاد السوداني المرهق أصلاً، مليوني دولار يومياً في ظل بيئة طاردة للاستثمار الوطني والأجنبي وظروف أمنية غير مواتية للتنمية، الأمر الذي أوجد اختلالات جوهرية شلت الحياة الاقتصادية وكان من مظاهرها: انخفاض حجم الناتج القومي، تزايد نسب التضخم، ارتفاع معدلات البطالة، وسوء الخدمات العامة والمرافق.
يتجلى كل ذلك بوضوح عندما نلقي نظرة سريعة على حجم الناتج القومي ومتوسط دخل الفرد وانعكاس ذلك على الأوضاع الصحية والتعليمية.
ووفقاً لتقرير لقسم البحوث والدراسات في «الجزيرة.نت» فإن حجم الناتج القومي - رغم ثروات السودان الطبيعية الضخمة - لا يتجاوز 52 مليار دولار (العام 2001) في حين بلغ الناتج القومي في دولة مثل كوريا الجنوبية التي كان يصنفها صندوق النقد الدولي في الستينيات هي والسودان «كحالتين ميئوس منهما» 472 مليار دولار. وتسبب ضعف الناتج القومي هذا في انخفاض متوسط دخل الفرد فلم يتجاوز 400 دولار سنوياً، في حين وصل في كوريا الجنوبية - التي اتخذها التقرير نموذجاً للمقارنة بالسودان لانطلاق عجلة التنمية فيهما معاً- إلى 9840 دولاراً.
وبالنسبة للبطالة فقد بلغت 18.7 في المئة وفقاً لتقديرات العام 2002 أي قبل توقيع اتفاقية السلام. هذه النسبة الكبيرة تترجم عملياً إلى مشكلات اجتماعية وخصوصا إذا علمنا أن 40 في المئة من سكان السودان هم دون الثامنة عشرة، مما يعني أن قطاع الشباب في الفترة الحالية وفي المستقبل المنظور - إذا لم تطرأ على سوق العمل تغييرات جذرية - سيظل يعاني من البطالة لسنوات قادمة.
يضاف إلى كل ذلك الاستغلال الجائر للثروة الخشبية لا سيما في الأقاليم الجنوبية التي تشهد بصورة عشوائية عمليات قطع لأشجار الغابات بطريقة لا تعرف المحافظة على التوازن البيئي خصوصا في بلد يعتمد 75 في المئة من سكان الريف فيه على الطاقة التقليدية (الخشب والفحم).
ويعيق ارتفاع نسبة الأمية مشاريع التنمية، فوفقاً لتقديرات العام 2003 فإن 61.1 في المئة من مجموع الشعب السوداني غالبيتهم من الجنوب لا يعرفون القراءة والكتابة.
قد تكون مشكلة الأمية في السودان مشابهة للأمية المنتشرة في غالبية الدول العربية، ولكن ارتباط أمية 61 في المئة من السودانيين بمشكلة الجنوب هو ما جعلها أثراً من آثار هذه الحرب، وفهم الأسباب الكامنة وراء هذا العدد من الأميين غير عسير.
فعلى سبيل المثال ما أنفق على التعليم في السودان خلال الفترة من 1995-1997 كنسبة مئوية من الناتج القومي لا يتعدى 1.4%، في حين بلغت هذه النسبة على التوالي في بلد كساحل العاج 5% وكينيا 6% وسيشل 10%. في الوقت نفسه بلغ حجم الإنفاق العسكري المعلن في السودان 3.6% من الناتج العام أي نحو ثلاثة أضعاف ما أنفق على التعليم.
أما عن تأثير الحرب على الرعاية الصحية فتعتبر معدلات وفيات الأطفال دون الخامسة في السودان من أعلى المعدلات في أفريقيا والعالم العربي إذ بلغت 116 طفلاً في الألف، في حين تنخفض هذه النسبة على سبيل المثال في دولة كالأردن - الذي لا يملك من الموارد الطبيعية ما يملكه السودان - إلى خمسة في الألف فقط، وذلك له أسباب متعددة منها:
أمراض سوء التغذية، ضعف الوعي الصحي، ندرة الخدمات الوقائية والعلاجية. وتعرض أطفال الجنوب على وجه التحديد للأوبئة القاتلة مثل الحصبة وشلل الأطفال والسل والدفتيريا والسعال الديكي والتيتانوس وحتى الكوليرا.
وأمر تردي الأوضاع الصحية في السودان لا يقتصر فقط على الجنوب، فالمياه الصالحة للشرب لا تتوفر إلا لـ25% فقط من سكان الريف، مما يعني أن 75% من السودانيين يستهلكون مياها غير صالحة للشرب، الأمر الذي له تداعيات صحية خطيرة.
والخدمات والمرافق العامة في السودان عاشت هي أيضاً من جراء حرب الجنوب معاناة مستمرة تفاقمت حدتها كلما زادت معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة. فقد بلغ عدد أهل الحضر من مجموع السكان في السودان 18.9% العام 1975 ثم ارتفع إلى 36.1% العام 2000، ومن المقدر أن يصل إلى 48.7% العام 2015. وهذا يدل على أن الريف يمثل باستمرار عامل طرد لسكانه، الأمر الذي يؤثر على تراجع عدد الأيدي الزراعية العاملة وما ينجم عن ذلك من آثار سلبية على الزراعة.
وأخيراً يجمل تقرير التنمية الإنسانية في الوطن العربي الصادر عن الأمم المتحدة في يونيو/ حزيران 2003 تفاصيل المشهد في جنوب السودان بقوله إن التخلف الذي يعانيه هذا الإقليم مرجعه إلى: انتهاكات حقوق الإنسان، عدم تمكين المرأة اقتصادياً مما أفقد قطاعاً كاملاً من المجتمع القدرة على الإسهام في التطوير، اختلال البناء المؤسسي، ندرة المعارف التقنية الحديثة والعجز عن إجادة استغلال القليل المتوافر منها: نقص «إنسان الحكم» الصالح. ففي مجال حقوق الإنسان وضع التقرير سلماً معيارياً من سبع درجات لاحترام الحريات العامة بما فيها حرية التعبير والحقوق السياسية، وكان نصيب السودان في الترتيب الأخير.
وعن سيادة القانون حدد التقرير رقماً أعلى هو (2.5)، وحداً أدنى هو (-2.5) وكان حظ السودان (-1.4).
وخلاصة القول بعد كل هذه الأرقام والإحصائيات إنه إذا كان بركان الحرب الأهلية قد تفجر في جنوب السودان العام 1955 وأصابت حممه البشر والحجر واكتوى بناره الماضي والحاضر، فإن نجاة المستقبل قد تكون هي الرهان الرابح إذا أفضى الاستفتاء في جنوب السودان إلى وحدة وطنية قوية أو انفصال(وهو الاحتمال الراجح) سلمي .
بيد أن ما يجري على أرض الواقع يتعارض مع هذه الأُمنية. ويبدو أن ماكشفته دراسة لمنظمة «ايجيز تراست» غير الحكومية، نشرت أخيراً بأن حرباً جديدة في جنوب السودان ستكلف السودان والمنطقة والمجتمع الدولي أكثر من مئة مليار دولار، سيكون واقعاً ملموساً ومعاشاً في المستقبل المنظور.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 3036 - الثلثاء 28 ديسمبر 2010م الموافق 22 محرم 1432هـ
لا إله إلا الله
لكم الله أيها المستضعفون في الأرض!!
يحكم الله لكم و هو أحكم الحاكمين.