رشيد أوراز --باحث مغربي، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
كتب إدوين جيه. فيولنر (رئيس مؤسسة التراث في واشنطن) في تقديمه لكتاب فريدريك هايك «الطريق إلى الرق» أن هذا الكتاب يعد أكبر من أي إسهام آخر في سيرة هايك. أما هايك نفسه فقد قال عنه إنه «واجب لم يكن عليّ التملص منه».
نشر هذا الكتاب في مارس/ آذار العام 1944 في بريطانيا، وطبع ست طبعات في عام ونصف تقريباً، وسرعان ما نال كاتبه شهرة منقطعة النظير.
كان الكتاب محاولة من هايك لتغيير أفكار الناس، وهو القائل لأنتوني فيشر (وكان طياراً محارباً أعجب بأفكار هايك) «إن مسار المجتمع سيتغير فقط بواسطة تغيير الأفكار. عليك أولاً الوصول إلى المثقفين، الأدباء والمدرسين، وفي مناقشات عقلانية. لأن تأثيرهم على المجتمع هو الذي سيسود، والسياسيون يتبعونهم».
ولد فريدريك فون هايك (1899-1992) بفيينا النمساوية. كان عضواً من مدرسة فيينا المعروفة، وفيلسوفاً واقتصادياً ليبرالياً، واجه الاشتراكية وتدخلات الدولة. حصَّل دكتوراه في القانون (1921) وأخرى في الاقتصاد (1923) من جامعة فيينا، كما درس علم النفس وعلم الاقتصاد، واعتبر الموسوعية العلمية شرطاً لتكوين أي عالم اقتصاد. بدأ قريباً من الأفكار الاشتراكية التي تؤمن بتدخل الدولة في الاقتصاد، وانقلب على تلك التصورات والأفكار بعد التقائه بمعلمه (لودفيغ فون ميزس).
يعد كتاب «الطريق إلى الرق» محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الحرية والسلطة، إذ شكلت الفاشية والنازية إنذاراً بأن الليبرالية قد تفقد مساحاتها أمام تقدم الأفكار الشمولية على ظهر الجماهير الانتخابية في أية لحظة. يعتقد البروفيسور هايك أن «النازية ليست وليدة نزعة الألمان الشريرة، لكنها نتيجة الأفكار الاشتراكية التي سادت ألمانيا بضعة عقود قبل بروز النازية». ويشير إلى ثلاثة أدلة تبرز الاتجاه نحو الاشتراكية:
الاحترام أو التبجيل المتزايد للدولة.
القبول القدري للاتجاهات الحتمية.
التحمس لتنظيم كل شيء (التخطيط).
ثم يبدأ هايك في عد طرق عمل الاشتراكيين فيقول: «كان الاشتراكيون، وليس الفاشيون، هم من بدأ بجمع الأطفال في السنوات الغضة من العمر في منظمة سياسية لتوجيه طرق تفكيرهم. وكان الاشتراكيون، وليس الفاشيون، هم أول من فكر في تنظيم الألعاب الرياضية، وكرة القدم والكشافة، في نوادٍ حزبية لا يتعرض فيها الأعضاء بالعدوى للآراء الأخرى، وكان الاشتراكيون هم أول من أصر على أن يميز عضو الحزب نفسه عن الآخرين من خلال صيغ التحيات وأشكال المخاطبة، وكانوا هم من خلق النمط الأنموذج للحزب الشمولي، من خلال تنظيمهم لخلايا ووسائل للإشراف المستمر على الحياة الخاصة. وفي الوقت الذي جاء فيه هتلر إلى السلطة، كانت الليبرالية ميتة في ألمانيا. وكانت الاشتراكية هي من قتلها».
يعتبر هايك أن «الملكية الخاصة هي الضمان الأكثر أهمية للحرية». ولكن لأن الاشتراكيون أنفسهم يعدون الناس بالحرية، فإن هايك يعتبر «وعودهم بالحرية تشكل في حقيقة الأمر طريقاً سريعاً للعبودية». ولأنه ليس من السهل أن تحرم الأغلبية العظمى من الفكر المستقل، فإن الاشتراكية تبدأ بوعود الحرية وتنتهي بقتلها بشكل كامل.
كتب هايك قائلاً: «تستخدم كلمة الحرية بحرية واسعة في الدول الشمولية، كما تستخدم في أي مكان آخر. والحق أننا نستطيع القول إنه أينما تعرضت الحرية التي نعرفها للتدمير، فإن ذلك يتم باسم حرية جديدة موعودة للجماهير. وحتى في صفوفنا، هناك من يعدنا «بحرية جمعية» شأنها في التضليل شأن أي شيء يقوله السياسيون الشموليون. إن الحرية الجمعية ليست حرية لأعضاء المجتمع، بل هي الحرية المطلقة للمخطط ليفعل ما يشاء بالمجتمع. إن هذا خلط بين الحرية والسلطة التي تمارس إلى أقصى الحدود».
إن القانون هو أكبر ضامن للحرية، أو الضامن الوحيد. لا تستطيع أية سلطة كيفما كانت أن تضمن حرية الناس، ولا يستطيع أي حاكم فرد القيام بذلك. ويعتبر هايك أن «حكم القانون تطور بوعي خلال العصر الليبرالي فقط وهو أحد أعظم الإنجازات. فهو التجسيد الشرعي للحرية. وكما قال إيمانويل كانط: (الإنسان حر إن لم يكن بحاجة إلى أن يطيع أي شخص سوى القانون)».
تتفاوت تمظهرات الشمولية بين السياسة والاقتصاد، لكن السلطة كلها تنتهي بين يدي أقلية قليلة من الأفراد تحت سلطة فرد واحد. قد يسهل تقبل الأفكار الاشتراكية في المجال الاقتصادي تحت مسمى «التخطيط»، والتخطيط لا يكون فعالاً إلا إذا كان صارماً، ومنه فكرة هايك أن «التخطيط يقود إلى الديكتاتورية، لأن الأخيرة هي الأداة الأكثر فعالية للإكراه والقسر».
يعتبر هايك أن «التخطيط والمنافسة لا يندمجان مع بعضهما إلا من خلال التخطيط للمنافسة، وليس من خلال التخطيط ضد المنافسة». ويعتبر أن «ليس من الممكن إيجاد حل وسط بين المنافسة والتوجيه المركزي... إن المزج بينهما يعني أن أي منهما سوف لن يكون فاعلاً». كما «لا يمكن فصل الغايات الاقتصادية المحضة عن غايات الحياة الأخرى».
أينما بدأت الأفكار الشمولية فهي تتسرب إلى كافة مناحي الحياة، فالفرد يكبر ويتوسع مجال تأثيره حتى يسود في الأخير. ولا تعدو الدعوة إلى التوجيه والتخطيط بأن تنتهي في صورة ديكتاتورية مقنعة تبحث عن السبل السياسية للتحكم.
يقول هايك: «إن الكيان التشريعي سيتناقص حتى الوصول إلى بعض الأشخاص الذين سيمتلكون عملياً السلطة المطلقة. وسيميل النظام برمته صوب هذا النوع من الديكتاتورية التي سيجري فيها إعادة انتخاب رأس الحكومة بين حين وآخر لمنصبه بالاقتراع الشعبي العام، ولكن طالما كان يمتلك زمام كل القوة والسلطة في يديه، فإن نتيجة التصويت ستمضي في الاتجاه الذي يريده هو».
وذلك طبعاً بواسطة الاقتراع الشعبي العام، وهذا حال الجماهير الواطئة الأخلاق، تساعد دوماً من يركب ظهرها لمصلحته الخاصة. ولن نجد تفسيراً منطقياً لذلك أكثر مما قاله هايك نفسه في هذا الكتاب: «كلما ازداد التحصيل العلمي أو ارتفع ذكاء الأفراد، أصبحت أذواقهم وآراؤهم أكثر تمايزاً. أما إذا أردنا أن نجد درجة عالية من التناغم والاتساق، علينا أن نهبط على مناطق المعايير الأخلاقية والذهنية المتدنية، حيث تسود الغرائز الأكثر بدائية. وهذا لا يعني أن غالبية الناس يمتلكون معايير أخلاقية واطئة، بل يعني أن القسم الأكبر من الناس من ذوي القيم المتشابهة جداً هم من هؤلاء الواطئين في معاييرهم الأخلاقية الفكرية».
ما هو الطريق للخروج من هذا المأزق إذن؟ ونحن نعرف أن «ما من شيء يجعل الأوضاع لا تطاق أكثر من المعرفة بأننا لا نستطيع تغيير تلك الأوضاع مهما بذلنا من جهود». الحل في نظر هايك هو أن نضع نصب أعيننا «أن المبدأ التوجيهي في كل محاولة لخلق عالم من الرجال الأحرار لابد أن يكون التالي: سياسة حرية الفرد هي السياسة التقدمية الحقيقية الوحيدة».
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3036 - الثلثاء 28 ديسمبر 2010م الموافق 22 محرم 1432هـ