كيف ستكون حال العلاقات الدولية في العام 2011 بعد المتغيرات التي طرأت على معادلة التوازن الداخلي في الولايات المتحدة؟ فالعالم على رغم تطوره باتجاه تعددي لاتزال أميركا حتى وقتنا تحتل رأس الهرم الدولي. وحين يكون رأس الهرم في حال من التجاذب الداخلي بين السلطة الرئاسية (التنفيذية) والسلطة التشريعية (الكونغرس) تصبح السياسة الدولية عرضة للتقلب يمنة ويسرة وحسب ما تقتضيه الظروف التي تتحكم بها مصالح الشركات والمصارف ومؤسسات التصنيع الحربي.
الرئيس باراك اوباما يستعد الآن لاستقبال العام الجديد في إطار السعي للحد من نمو قوة «تيار المحافظين الجدد» واحتمال استعادة نفوذه بناءً على دعم الكتلة التصويتية للحزب الجمهوري ورديفه حزب الشاي. فهذا المتغير الذي يمكن أن يحد من هامش حرية الرئيس يرجح أن يشكل نقطة تجاذب على الصلاحيات ما سيكون له مردوده السلبي على توجهات الإدارة وسياستها الخارجية وتحديداً في دائرة «الشرق الأوسط».
الخلافات بين الطرفين قد تكون واسعة لتشمل ملفات روسيا والصين وأميركا اللاتينية وأوروبا، ولكن سيبقى «الشرق الأوسط» يشكل قطب التجاذب بين التوجهين نظراً لحساسية القضايا الساخنة وتأثيرها المباشر على الانتخابات الرئاسية بعد سنتين. العلاقة الاستراتيجية مع روسيا يمكن أن تشهد تفاهمات بين الديمقراطي والجمهوري، كذلك العلاقة التجارية المضطربة بين أميركا والصين... ولكن الأمر سيختلف حين يتم التطرق إلى ملفات «الشرق الأوسط» وما تتضمنه من أوراق تمتد من السودان (المهدد بالتقسيم) إلى فلسطين (استئناف المفاوضات ومشكلة الاستيطان والاعتراف بحدود الدولة) إلى العراق (التموضع) إلى إيران (الملف النووي) وأفغانستان وباكستان (مكافحة الإرهاب في ظلال الانسحاب العسكري).
اوباما في العام 2011 سيكون في وضع أصعب من السابق، حين أمضى خلال السنتين الماضيتين فترة نقاهة حاول فيها تصحيح وتنقية وتهذيب استراتيجية جورج بوش الدولية ولكنه فشل في تعديلها أو تغييرها وأخذها نحو قراءة مغايرة لتلك الثوابت التي اعتمدها تيار المحافظين الجدد. فترة النقاهة انتهت من دون أن يتوصل اوباما إلى مراجعة نقدية لكل الملفات، ما سيفرض على إدارته اعتماد سياسة المصالحة الداخلية للحد من سلبية الأضرار التي ستواجه البيت الأبيض خلال استعراض ومناقشة القضايا ذات العلاقة بالاستراتيجية الدولية وتحديداً تلك النقاط العالقة والساخنة في «الشرق الوسط».
الكونغرس في نسخته الجمهورية سيكون أكثر تشدداً وتزمتاً سواء في معاكسة خطوات الإصلاح الداخلية (الضريبة، الضمان الصحي، القروض، الإنفاق على التعليم، خفض الموازنة الدفاعية) أو في معاكسة التوجهات الخارجية وتحديداً سياسة ربط أزمات «الشرق الأوسط» في إطار معالجة مشتركة تأخذ في الاعتبار المصالح الأميركية والمخاطر الأمنية التي تتعرض لها قوات الولايات المتحدة المنتشرة في المنطقة.
التطرف الذي يمكن أن يصدر عن مراكز القوى في الكونغرس سيضع الإدارة أمام احتمالي المراجعة أو المواجهة. وبما أن المواجهة غير واردة نظراً للصعوبات التي سيتعرض لها البيت الأبيض في مختلف الملفات تصبح المراجعة هي الخيار المتوافر للخروج من المعارك القانونية بأقل الخسائر.
كيف ستكون المراجعة المتوقعة على صعيد السياسة الخارجية، وما هو معدل نسبتها بين الأدنى والأعلى؟ هذا السؤال يمكن طرحه على أكثر من ملف. فالموضوع الأفغاني - العراقي المشترك يعتبر أساساً من نتاج سياسة الحزب الجمهوري إذ ورثه اوباما عن سلفه وحاول قدر الإمكان الالتزام بالتوجهات والاتفاقات التي وقعها بوش قبل مغادرته البيت الأبيض. فالرئيس اوباما حافظ بنسبة محترمة على تلك الوعود وتخلى عن الكثير من تصوراته حتى لا تصاب الاستراتيجية الأميركية بأضرار لا تعوض. لذلك لم يعدل البيت الأبيض الاتفاقات الموقعة ولم يغير خطط أو خطوات الانسحاب. حتى لو لجأ إلى تسريع بعضها كان يحرص أن تكون إيقاعاتها مدروسة ومتوافقة مع المنحى العام للرئيس السابق (معتقل غونتنامو مثلاً).
المشكلة بين الحزبين المتنافسين لا تختصر في الموضوع الأفغاني - العراقي باعتبار أن اوباما تعاطى مع الملف المذكور بوصفه من الأخطاء الموروثة التي لابد من معالجتها ضمن الإجراءات المتخذة في العهد السابق، أي أنها مجرد معضلة أصبحت من الماضي. المشكلة ليست هنا وإنما في تلك الملفات التي لاتزال تثير إشكالية في المستقبل وتؤثر مباشرة على مزاج الشارع ومصالح الجمهور الانتخابي.
الملف النووي الإيراني وتضاعفاته وتداعياته لا يعتبر من قضايا الماضي بل يطرح إشكالية سياسية لها تأثيراتها على المستقبل وما تجره من احتمالات تتعلق بالأمن الاستراتيجي للقوات الأميركية وأمن النفط وأمن «إسرائيل» ومراكز القوى في منظومة العلاقات الإقليمية. في هذا الجانب المثير للجدل تبدو توجهات الكونغرس الجمهوري أكثر تشدداً وانغلاقاً ومع مزيد من العقوبات وقليل من المفاوضات.
الملف الفلسطيني وامتداداته الداخلية والجوارية والإقليمية لا يعتبر من قضايا الماضي بل مشكلة مستقبلية تثير الكثير من التوترات والانفعالات في الشارع الأميركي وعلى مستوى العلاقات القلقة بين الولايات المتحدة والدول العربية والإسلامية. ومثل هذا الملف الذي يلقى الإجماع الجمهوري - الديمقراطي على دعم «إسرائيل» والانحياز لكل ما يخرج عن حكوماتها من قرارات وإجراءات سيكون محطة إضافية في إطار التنافس على من هو الطرف الأضمن لحماية الحليف الاستراتيجي في دائرة «الشرق الأوسط».
التنافس المحتمل سيرجح في النهاية كفة التشدد الأميركي مع السلطة الفلسطينية وسيرفع من نسبة صعوبات الحصار على قطاع غزة (امارة حماس) وسيضعف من فرص المفاوضات وسيقلل من طموحات التوصل إلى تفاهمات عادلة بشأن الاستيطان والاعتراف بالدولة.
هذا هو الحد الأدنى المتوقع على مستوى القضايا المستقبلية المختصة بالملفين الإيراني (النووي) والفلسطيني (التسووي). الحد الأدنى هو المزيد من الضغوط والتشدد والانغلاق، بينما الحد الأعلى سيكون رفع حدة التعارض إلى درجة قصوى من الاستنفار وربما الاستعداد لفتح معابر تسمح بمرور مواجهات حامية ومضبوطة تحت سقف توجيهات الإدارة الأميركية.
احتمال الانزلاق نحو الخط الأحمر وتجاوز الأخضر مسألة غير مستبعدة في ظلال حزب جمهوري يقود الكونغرس إلى دائرة التطرف في العداء للعالم العربي والإسلامي مقابل المزايدة في الالتزام بسياسة الانحياز المطلق لعدوانية «إسرائيل». وهذا الانزلاق ليس بالضرورة أن يكون مفتوحاً على كل الاحتمالات أو غير مضبوط بسقف المعادلة الدولية، ولكن مجرد حصوله على الضوء الأخضر (أو الأصفر) من الإدارة الأميركية يعتبر خطوة دراماتيكية قد تسفر عن تحولات أو نتائج غير محسوبة أو متوقعة في إطار تعانق الملفات الساخنة في «الشرق الأوسط».
اوباما الآن قاب قوسين من انتهاء فترة النقاهة التي أمضاها في تهذيب وتنقيح استراتيجية بوش الدولية من دون أن ينجح في تعديلها وتغييرها بسبب ممانعة المؤسسات التقليدية التي تحرص دائماً على عدم المساس بالثوابت وتحديداً تلك المتصلة بالقضايا المتوارثة في «الشرق الأوسط». فترة النقاهة شارفت على الانتهاء وبعدها سيكون اوباما في موضع أصعب من السابق لا من حيث ترتيب سياسة الخروج والانسحاب من الأزمات بل من حيث احتمال التورط والدخول في مشكلات مفتوحة على المستقبل لا الماضي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3034 - الأحد 26 ديسمبر 2010م الموافق 20 محرم 1432هـ
أوباما "مسيّر" لا "مخيّر"
و ما هو سوى آلة لتنفيذ مقتضيات السياسة الأميركية الطاغية على العالم.
فلا تظنن بأن بإمكانه التغيير.