تحظى التجربة السياسية الإسلامية في تركيا باهتمام واسع على المستوى الإسلامي والعالمي لكونها فريدة من نوعها. فبعد انهيار الدولة العثمانية (دولة الخلافة الإسلامية) وقيام الجمهورية التركية العام 1924 برز في تركيا تياران أحدهما علماني بمظاهر أوروبية عمل على تقويض الدولة المريضة وإلغاء دور الإسلام في إدارة الدولة, وآخر أسلامي سعى إلى إصلاح الدولة بدلاً من تقويضها, إلا أن الغلبة كانت للقوى العلمانية التي اخترقت مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية منذ بداية القرن التاسع عشر.
عمل التيار العلماني بقيادة مصطفى كمال أتاتورك على تثبيت أركان الدولة العلمانية على شكل ممارسات متعارضة مع الدين ما أوجد أثراً بالغاً وحنقاً في أوساط التيار الإسلامي الذي تحول إلى حركة إسلامية معتدلة مدركة لطبيعة الواقع والتحديات ومتبنية لسياسة النفس الطويل والمرونة والاعتدال.
يقول الدكتور إدريس بو وانو في كتابه «إسلاميو تركيا, العثمانيون الجدد» إن التجربة السياسية الإسلامية التركية منذ بدايتها الأولى تسلك سبيل المناورة في أدائها السياسي, وهذا الأمر فرضته عدة عوامل أهمها طبيعة الديموقراطية التركية, وشدة المأزق الذي تقع فيه التجربة السياسية الإسلامية. ويضيف الدكتور إدريس أن أسلوب تكتيك المناورة السياسية التي أدار بها زعماء التيار الإسلامي مكنهم من الالتفاف على كثير من المعادلات والقضايا الداخلية والخارجية.
من جهة أخرى يعزو الدكتور إدريس نجاح التجربة الإسلامية في تركيا إلى مرونتها في تعاطيها مع التيار العلماني فيقول «إن الاستيعاب المتبادل بين العلمانيين والإسلاميين أثمر اعترافاً متبادلاً خلق في النهاية تعايشاً بين الطرفين داخل الساحة التركية, وقدراً من التفاهم على انتهاج الديموقراطية, حيث أدركت أطراف المعادلة الديموقراطية بعد زمن من الصراع أن ثمة مساحات مشتركة للعمل بين الطرفين. وفي حين لن يكون بوسع أحد إلغاء الآخر بإمكان الطرفين أن يشتغلا معاً في المساحات المشتركة وأن يتنازل كل طرف عن قدر معين للآخر».
ويشير الباحث سونر كاجابتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى المرونة التي تتسم بها الحركة السياسية في تركيا فيشبهها بشجرة الكافاك التي تميزت بها التضاريس الأناضولية. فهذه الشجرة تبدو هشة في مظهرها لكنها قوية وتنثني بزوايا مذهلة لتتكيف مع قوة الرياح دون أن تنكسر. فتركيا, كما يقول, تشبه شجرة الكافاك.
على هذه الخلفية يمكننا فهم العوامل التي أدت إلى وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في العام 2002 والذي جاء برياح اجتماعية وسياسية جديدة على المجتمع التركي. فهذا الحزب تعود جذوره إلى الحركة الإسلامية والتي شملت حزب الرفاه. وقد اكتسب زعيم الحزب ورئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان خبرة شجرة الكافاك من حزب الرفاه الذي تم حظره في العام 1998.
وقد تجلت المرونة والمراوغة السياسية في قدرة أردوغان على إعادة صياغة الحزب من جديد بصورة إصلاحية رأسمالية مؤيدة لأميركا والاتحاد الأوروبي, وقام بطمأنة المعتدلين عندما وصل إلى سدة الحكم في العام 2002 بأنه لن ينال من القيم العلمانية والديموقراطية والموالاة للغرب متخلياً بذلك عن موروثه الإسلامي المتعارف عليه, حيث عمل بالفعل على تحويل تركيا إلى دولة أكثر ليبرالية وتأييداً للغرب، ساعياً بذلك لضمان عضوية الاتحاد الأوروبي وهو ما تدعمه وتريده الولايات المتحدة الأميركية بغرض دفع حزب العدالة والتنمية لمزيد من الإصلاح والتحرر, وكذلك استجابة وتناغماً مع رغبة الرأي العام التركي.
إلا أن أردوغان الذي وصل إلى السلطة في العام 2002 بدعم شعبي لم يراهن على الدعم الغربي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فرفض في العام 2005 إدخال تعديلات صارمة لا تحظى بشعبية في تركيا كان قد وضعها الاتحاد كشرط للانضمام ما تسبب في انخفاض في المزاج الشعبي التركي تجاه الانضمام للاتحاد الأوروبي.
يستمد حزب العدالة والتنمية, كحزب محافظ ذي توجه إسلامي, قوته من قاعدته الشعبية التي يعتقد بعض المحللين أنه تمكن من خلالها من إعادة تشكيل المجتمع التركي في اتجاه مغاير لما أراده العلمانيون منذ العام 1946, حينما اختارت تركيا التحالف مع الغرب. ورغم أنه ينفي أن يكون حزباً إسلامياً إلا أن جذوره تبقى إسلامية لكونه منبثقاً من النواب المجددين الذين انشقوا عن حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان الذي تم حله في العام 2001. لهذا السبب يتهم العلمانيون حزب العدالة بتطبيق خطة سرية لأسلمة البلاد متناسين أن الشعب التركي هو شعب مسلم وليس بإمكانه سلخ نفسه عن ذاته وعن محيطه بصورة تامة. وفي مواجهة هذا الاتهام يصر رجب طيب أردوغان, بأسلوبه المراوغ المعروف, أن حزبه الحاكم سيواصل السير على طريق حماية القيم الجمهورية ومن بينها العلمانية.
ليس بوسع المشاهد أن يتجاهل التحولات السياسية الداخلية والخارجية في تركيا منذ وصول حزب العدالة إلى الحكم قبل ثماني سنوات. فعلى المستوى الداخلي حققت تركيا تنمية اقتصادية غير مشهودة انعكست بالإيجاب على المستوى المعيشي للشعب التركي الذي تفاعل وتناغم مع سياسة حزب العدالة فمنحه مزيداً من الثقة والتأييد على المستويين الداخلي والخارجي.
فالسياسة الخارجية التركية, وخاصة تجاه القضية الفلسطينية, تتمتع الآن بتأييد شعبي بعد أن كانت تركيا لفترة طويلة نموذجاً لبلد مسلم استطاع إقامة علاقة متعاونة مع إسرائيل. وقد بدت التحولات في السياسة الخارجية أكثر وضوحاً عندما دافع أردوغان عن البرنامج النووي الإيراني، معتبراً أن الترسانة النووية الإسرائيلية هي المشكلة في الشرق الأوسط.
إن النموذج الإسلامي السياسي التركي يعتبر فريداً في المنطقة وفقاً للمعطيات الآتية:
- إن حزب العدالة, بالرغم من توجهاته الإسلامية, هو حزب وطني تبنى الاعتدال واختار التوافق والتنافس مع العلمانيين في إطار الديموقراطية التركية وذلك من أجل مصلحة الأمة التركية.
- إن حزب العدالة لم يتبنَّ أفكاراً سياسية أو دينية متطرفة. ففهمه للسياسة في الإسلام متقدم على الفهم السائد في المنطقة العربية. فهو لم يكن يوماً ما مصدراً لأي منهج تكفيري أو إرهابي. والشعب التركي تكيف دوماً مع الواقع بعقلانية وتوازن. وهذا ربما يكون مرده الموقع الجغرافي والموروث الحضاري وتأثير النهج الديموقراطي الغربي المبني على الحرية والمنافسة والذي تمكن حزب العدالة من الاستفادة منه بصورة إيجابية.
إن حزب العدالة يقدم تجربة جديدة ومتنورة للقوى الإسلامية في المنطقة مبنية على الوطنية والتسامح والخيار الديموقراطي والمساواة واحترام حقوق الإنسان في ظل من العدالة وحكم القانون, وهي المبادئ التي يدعو إليها الإسلام الحنيف.
إن حزب العدالة كحزب وطني يدرك أن قوة الأمة تكمن في وحدتها, وهذا يفسر لنا حضور رجب طيب أردوغان احتفالات عاشوراء التي أقامها الأتراك الشيعة والتي اعتبر فيها إحياء هذه المناسبة يوماً للوحدة بين المسلمين
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 3033 - السبت 25 ديسمبر 2010م الموافق 19 محرم 1432هـ