لو كان لمكان واحد أن يختصر بحضوره وشموخه واستمراريته صورة البحرين بماضيها وحاضرها، وربما مستقبلها، بأحزانها وأفراحها، بجمالها وأمنياتها، بخصوصيتها الجغرافية، وأشجانها البيئية، بنواقصها السياسية وإنجازاتها العمرانية، بالتحديات التي تنتظرها والشوط الذي قطعته في نهضتها، لفاز موقع قلعة البحرين في شمال الجزيرة الأم بهذا اللقب بلا منازع.
تختصر الحضارات أحياناً في كلمات، أو في شخصيات، أو في رموز، وأحياناً تختصر في مكان واحد أو أمكنة متعددة محملة بحضور طاغي يغلب على حواسك كلها في صورة رباعية الأبعاد، فتراه، وتسمعه، وتشمه وتلمسه، وحتى حاستك السادسة سوف تفعّلها ثقافة المكان فتجبرك دون أن تدري على التنبؤ بما سيحدث في المكان نفسه يوماً ما.
منظر فريد ذلك الذي تطل عليه وأنت مشرف على البحرين من تلة قلعة البحرين. فالبحر يطل من أمامك تتقدمه أمواجه في مد جميل طوراً، وكثيراً ما تتراجع الأمواج على استحياء لتتركك في مقابل بحيرة «ناشفة» عطشى، ومعاول الدفان تلوح لك من بعيد بجراراتها التي تئزّ أزيزاً كأنه الأنين بين حفر ودفن لا يتوقف.
وإذا تلفت يمنة ويسرة فسيصيبك العجب وتشعر بأنك في موقع المتناقضات فعلاً. فعلى يمينك منظر ساحر لأضواء مدينة المنامة الحديثة بمبانيها الشاهقة وضجيج سياراتها وسرعتها البادية من بعيد. في صورة حركة وعمل دؤوب لبناء المجتمع والدولة والعمل على رقيهما.
أما على يسارك فلن يستقبلك غير منظر أخضر داكن لنخيل كانت تعيش يوماً في جزيرة مليونية النخيل، فأصبحت أقلية في جزيرة مليونية السكان. ستتوحد مع النخيل، وسيتسرب إلى مسامعك صوت الأذان أو بعض الأدعية التي تصل أصداؤها من مساجد أو مآذن قرية القلعة القريبة من هذا الموقع. وستتردد أعصابك السمعية في استيعاب متناقضات كل تلك الأصوات دفعة واحدة: صوت الأذان، الأمواج، جرارات الدفان، سيارات المدينة السريعة، وأصوات أنواع متعددة من الطيور تحلق في السماء وتحط في أسراب جماعية على الشاطئ، وكأنها تقول: تعلموا مني، يجب أن نعمل معاً دائماً.
أما قريباً من موقع قدميك فلن تقاوم عبقاً للتاريخ يتملكك، شاهده قبور إسلامية وقلعة تحمل بين جدرانها تاريخاً استثنائياً لثلاثة حقب تاريخية مختلفة مرت استقبلتها هذه الجزيرة العامرة منذ الخليقة، وخلدتها هذه القلعة وما يحيط بها.
سيلاحقك دون أن تدري ما كتب على أحد الأختام الدلمونية «دلمون أرض مقدسة، دلمون أرض طهور، على أرض دلمون المقدسة الطهور لا ينعق الغراب، ولا يفترس الأسد، لا أحد يقول عيني تؤلمني، رأسي يوجعني، لا المرأة تصبح شيخاً... دع مدينة دلمون تصبح ميناء للعالم كله».
لقد أصبحت دلمون بالفعل اليوم ميناء للعالم كله، بكل ما يحمله ذلك معه من محاسن أو مساوئ. صارت مقصداً للاستثمارات العالمية وراحة وسكناً للعاملين الأجانب، لكن غراب التجنيس نعق على أرضها المقدسة الطهور، فصار البعض يسترزق ويتاجر بمنح جنسيتها لمن لا يستحق.
عذراً للدلمونيين فأسُود السياسة تعلمت الافتراس منذ زمن، وأصبحت المتناقضات الجغرافية والمدنية التي تطل عليك من موقع قلعة البحرين، حقيقة في سياسة محلية مليئة بالمتناقضات، ووحدة وطنية مهددة، وقوى سياسية متخبطة وضائعة داخل وخارج البرلمان تفرقها الوحدة والهدف المشترك.
عذراً للدلمونيين أيضاً فواقع الحال المعاصر يقول بأن غالبية من في البحرين مصاب اليوم بأوجاع الرأس، وألم العينيين، وحسرة في القلب وقرحة في الفؤاد. فالتغيير بطيء والتقدم معرقل، والتحديات كثيرة وكبيرة، والحسرات والنكسات أكبر. أما النساء فهن يشخن، إن لم يكن بفعل العامل الطبيعي للزمن، فبفعل بعض إحباطات التمييز أو العنف الاجتماعي.
ستفتح بعد كل هذه الصورة البانورامية مسامك الأنفية لتتنفس هواء البحرين فتشعر معه براحة غريبة سحرية رغم المتناقضات. وستتساءل وأنت تنظر إلى حضارة ضاربة في العمق كتلك الآثار الدلمونية، وشاهقة في التقدم كمباني المنامة الحديثة التي تطل من بعيد، كيف ستكون الصورة في عيني بحريني سيقف بعد ألفي عام في نفس الموقع مطلاً على البحرين من تلة قلعتها؟
إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"العدد 3033 - السبت 25 ديسمبر 2010م الموافق 19 محرم 1432هـ
hassan
خير انشالله
كما حولونا إلى أقلية في بلدنا كذلك النخيل
ليس بدعا أن تتحول النخيل إلى أقلية بعد أن كانت اكثرية تغمر معظم بقاع هذه الأرض الطيبة إلا انها وبقدرة قادر أصبحت أقلية مقابل بنايات شاهقة وطمس للأراضي الزراعية وإغراق البلد في كم هائل من الجنسيات حتى أصبح السكان الأصليون 46% وسوف تتقلص هذه النسبة في السنوات المقبلة وليتنا مثل باقي دول الخليج مع تقلص هذه النسبة إلا ان ميزات المواطنة في تلك الدول تجعل من المواطن رافع رأسه متميزا على غيره بموطنته أما هنا فمحاولة التهميش للمواطن في العدة والعدد أي في الكم والكيف فالأجانب مميزون علينا