لئن كانت الدولة الإسلامية غاية تلهج بذكرها الجماهير من المحيط إلى المحيط ولا تتوانى عن بذل أغلى ما تملك من أجل تحقيقها فإنها مازالت مبهمة في تصوّر المسلمين، غير واضحة على مستوى قسماتها وطرق تكوينها، فهي أقرب إلى الفكرة التاريخية والأخلاقية، وذلك دفع قادة الفكر الإسلامي إلى العكوف على التنظير لها، ولايزال سعيهم متواصلاً لإزالة الغبش عن الرؤية وإخراج فكرة الدولة من الدائرة العاطفية لتأخذ حقّها في الأذهان بصورة راسخة عميقة يجتمع عليها المسلمون وفي مقدّمتهم الحركات الإسلامية التغييرية، لأنه يجب الاعتراف بأن مشكلتنا لا تتمثّل في إخراج الدولة الإسلامية إلى الواقع فحسب وإنما في تصوّرها النظري أيضاً أي في النموذج نفسه الّذي ليس واضحاً عند كثير من أنصار المشروع الإسلامي أنفسهم، ولعل لنا بعض العذر في عدم الوضوح هذا بسبب الفصام الّذي وقع مبكّراً بين السياسة والثقافة في تاريخنا ثم بين الثقافة والإسلام، فذهب صفاء الرؤية وتراكمت أخطاء القرون حتّى أصبحنا في عملنا النهضوي لا يضيف اللاحق للسابق وإنما يتبنى القطيعة معه وينطلق من الصفر، ولا يغيب عن البال أن غموض النظرة إلى الدولة الإسلامية يسيء إلى الإسلام نفسه بما فتح للخصوم من منافذ تسري منها شبهاتهم.
إنه لا يجدي - في تقديرنا - التهوين من الغبش الموجود في أذهاننا ولا من الاختلافات العميقة والجذرية أحياناً بين كثير من الفصائل الإسلامية حول موضوع الدولة، ولابدّ من حسم التصوّر قبل الانطلاق إلى التجسيد العملي فذلك أفضل لنا وللإسلام الّذي نعمل له وباسمه، والاختلافات المذكورة ترتكز أساساً على كيفية إقامة الدولة الإسلامية، ويبرز هنا اتجاهان كبيران يستند أحدهما إلى الشرعية الدينية ويعتمد ثانيهما على الشرعية الإنسانية، فالأول يرى أن إقامة الدولة فرض دينيّ بحتٌ يقوم به المسلمون الملتزمون بأي وسيلة متاحة من أجل تطبيق الأحكام الشرعية شاء باقي الناس أم أبوا، فأصحاب هذا الاتجاه ينطلقون من النصوص ويلخّصون وظيفة الدولة في تطبيقها طلباً لمرضاة الله ولا يعنيهم موقف المواطنين - فضلاً عن غيرهم - أو اعتراضهم أو تحفّظهم، أمّا الاتجاه الثاني فإنه يفهم أن الإسلام جعل الحاكمية لله وأعطى صلاحية تسيير شئون المجتمع للشعب، فالمسلمون يسعون ليس إلى إخضاع الناس والمؤسسات للنصوص الشرعية كهدف نهائي من التنظيم الاجتماعي والسياسي وإنما ينطلقون من الكتاب والسنّة لإقامة نظام يجلب المصالح ويدرأ المفاسد ويحقّق المقاصد في إطار الإحاطة بالسنن الكونية والاجتماعية والنفسية والأبعاد الزمانية والمكانية، ويعتمد بالتالي على الاختيار الشعبي الحرّ، وهكذا فإن الدولة الإسلامية هنا نتيجة لعمل دعوي طويل وعميق ينشئ رأياً عامّاً واعياً مقتنعاً بالأطروحات الإسلامية يرجّح كفّة هذا النمط من الدولة عندما يدعى الشعب إلى الاختيار، فهذا هو الحل الطبيعي - مهما كانت مراحله طويلةً والعقبات التي تعترضه كأداء - لمشكلة إقامة الدولة الإسلامية، يتمثل إذن في الثقة في الشعب ويعتمد على الشرعية الإنسانية أي على قدرة أبناء البلد (أو غالبيتهم على الأقل) في اصطفاء المؤسسات السياسية المنبثقة من عمق الشعب ورغباته والملتزمة بالضوابط الشرعية، فإذا تمّ الأمر على هذا النحو فهو يحصّن الدولة من التقلّبات لأن الاختيار عن قناعة وطواعية - كنتيجة للعمل الدعوي الطويل العميق الواعي المبصر - هو أحسن ضمان للبقاء والقوة، ولابد من الاعتراف أن الغرب قد تمكّن من وضع هذه الضمانات لأنظمته فنعمَ بالاستقرار في العصر الحديث بعد تاريخه المخضب بالدماء في التطاحن من أجل الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.
إن التنادي بإقامة الدولة الإسلامية باسم الشرعية الدينية أي كاختيار فوقي لا يسع الناس إزاءه إلا التسليم هو أكبر خطر يتهدّد هذه الدولة التي نتوق إليها، كيف لا وقد خاضت شعوب الأرض قروناً من النضال من أجل التحرّر من ربقة الاستبداد المبني على مزاعم أن الجماهير قاصرة ولا مفرّ لها من الوصاية باسم الدين أو غيره، ولا نعني بهذا طبعاً التنكّر للدين، فهو مقوّمنا الأول، لكنّنا نؤكد أن الإسلام نفسه أوكل للإنسان صلاحية تسيير الحياة الاجتماعية في حدود الالتزام بالربانية مصدراً ووسيلةً وغايةً، كما أنّنا نتوجّس من الحكم الاستبدادي المتستّر وراء إمضاء إرادة الله حتّى ولو كان أنصاره من ذوي النيات الخالصة! فلا يمكن أن يترك مصير الشعوب المسلمة للنيات الطيبة وإنّما يجب إعطاء الضمانات الكافية، وأحسنها هو الاحتكام إلى الشعب باعتباره مصدر السلطات في إطار المرجعية الإسلامية المنبثقة من قطعيات الدين وأصوله ومقاصده، وإلى هذا الحدّ تبرز مشكلة الاعتبار بالتاريخ أو اتّخاذه نموذجاً مقدّساً من حيث نشعر أو لا نشعر، فتجربة أنظمة ما بعد الخلافة الراشدة كرّست انتقال السلطة بواسطة الوراثة وكانت طريقة سائدةً في أغلب دول العالم آنذاك، ولا يكاد يحدث تغيير النظام إلا بالانقلاب بحيث أصبح المستحوذ على السلطة بالغلبة لا يضيف إلى ما أنجزه النظام السابق وإنّما يسارع إلى هدمه.
وهو بلاء كاد يعمّ العالم آنذاك إلى أن تحرّر منه الغرب - بعد عمل فكري جبّار متواصل وتضحيات ضخمة بالنفوس - باستحداث ميكانيزمات تضمن استمرار الدولة واستقرار المؤسّسات بتولّي الشعب أمر التعيين والعزل والرقابة والحماية عبر آليات الديمقراطية المعروفة، أما نحن فمازلنا نعاني من المشكلة إلى اليوم، وقد استقرّ في الأذهان أن الدولة هي الحاكم نفسه، فإذا زال الثاني (بالطريقة العنيفة في أغلب الأحيان) زالت الأولى، وما على الحاكم الجديد إلا أن يؤسّس دولةً أخرى وهكذا دواليك، ولهذا نرى كثيراً من دعاة الدولة الإسلامية لا يقبلون بأقلّ من هدم جذري للدولة القائمة لإنشاء كيان جديد يختلف عنها شكلاً ومضموناً، والواقع أن مثل هذا التصوّر قاصر جدّاً لأنّه يقفز على الواقع وحتّى على شهادة السيرة النبوية، فالقطيعة المطلوبة باسم الإسلام هي قطيعة مع السلبيات على مستوى الاختيارات المصيرية وطرق التسيير والمسئولين، أمّا ما كان من إيجابيات - وهي موجودة قطعاً في مجتمعاتنا المسلمة كما في غيرها - فيجب تبنّيها واستثمارها في عملية التغيير التي تمكّن للمشروع الإسلامي، فالواقع يثبت أن الأمم المتقدّمة هي الّتي تؤسّس رقيّها على التواصل في العطاء الإيجابي ونفي السلبيات، كما أن الرسول (ص) قد استبقى من الأفكار والمؤسسات والمناهج والأشخاص الموجودة في المدينة المنوّرة كل ما لم يتعارض تعارضاً جوهريّاً مع الإسلام، وصرّح أنه بعث ليتمّم مكارم الأخلاق، أي يتبنّى ما وجده إيجابياً من التراث الإنساني المشترك، وما برح يذكر حلف الفضول بخير، وأغلب الظنّ أنّ الإسلاميين يحقّقون مكاسب عظيمةً في القلوب والعقول والانتخابات لو استطاعوا التخلّص من ذهنية الهدم الشامل والانطلاق من الصفر، واعترفوا بمكانة الجهد البشري وفكرة المواطنة وأن الدولة الإسلامية - كأية دولة - هي نتيجة تطوّر وتغيير دستوري وليست عبارة عن انقلاب عنيف تسنده عاطفة دينية أو عصبية معيّنة، ولا يمكن هنا الاحتجاج عليها بتطوّرات الحياة السياسية العربية والتجارب الّتي خاضها الإسلاميون، لأنّنا إذ نعلم أن للاتّجاهات العلمانية المتسلّطة مسئولية في ذلك فإنّنا لا ننكر أن أطروحات بعض الفصائل الإسلامية ساهمت في خلق أزمة كبيرة بغموضها أو بأفكارها وسلوكياتها الاستفزازية.
إقرأ أيضا لـ "عبد العزيز كحيل"العدد 3031 - الخميس 23 ديسمبر 2010م الموافق 17 محرم 1432هـ