يأتي ابن خلدون إلى سرد أخبار قطره وفيها «لا زيادة على ما علمتم» من «استقرار أبواسحق» في تونس «مستبداً بأمره بالحضرة بعد مهلك شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين القائم بأمره (...) مضايقاً في جباية الوطن، واحكامه بالعرب المستظهرين بدعوته، مصانعاً لهم بوفرة على أمان الرعايا والسابلة» (التعريف 512). ويحدث ابن الخطيب عن انتظام بجاية «محل دولتنا في أمر صاحب قسنطينة وبونة، غلاباً كما علمتم، محملاً الدولة بصرامته وقوة شكيمته فوق طوقها، من الاستبداد والضرب على أيدي المستغلين من الأعراب». ويرى أنه على رغم استبداده فهو «منتقض الطاعة» إلا ما «شمل البلاد من تغلب العرب، ونقص الأرض من الأطراف والوسط» إلى أن يقول و«خمود ذبال الدول في كل جهة، وكل بداية فإلى تمام».
نجد في هذه الفقرة من أخبار تونس وبجاية وقسنطينة والقبائل العربية المتنقلة بينها كل عناصر نظريته التي ستتبلور لاحقاً عن العمران وخرابه، خصوصاً استخدام مفرداته عن الجباية واستظهار الطاعة وتوزيع الثروة (الوفرة) والغلبة والقوة وتحميل الطاقة فوق طاقتها بالاستبداد والضرب. وتأتي مصطلحاته المحددة حول تقلص رقعة الدولة وقضم وسطها وأطرافها وخمودها وذبولها لتشير إلى بداية تبلور نظرية التطور الدائري (الهبوط) ووصول الدولة إلى نهايتها... إذ كل بداية إلى تمام. فنظرية المعرفة التاريخية بدأت تتركب في ذهن ابن خلدون وبدأ يظهر ذلك في لغته ومفرداته ومصطلحاته وابتعاده عن «السجع خشية القصور». فهناك إلى استخدامه مفردات دقيقة ومصطلحات محددة، مختلفة عن تلك التي استخدمها ابن الخطيب، محاولة للاعتماد على لغة مركبة فكرياً لا تنساق للبيان والسجع.
لا يذكر ابن خلدون أخبار المغرب الأقصى والأدنى لصديقه الوزير المؤرخ لأنه مطلع عليها ويكتفي بسرد أخبار المشرق وما ذكر «هذه السنة من اختلاله وانتقاض سلطانه (...) وفساد المصانع والسقايات (...) حتى لزعموا أن الهيعة اتصلت بالقاهرة أياماً، وكثر الهرج في طرقاتها وأسواقها» بسبب اختلاف أركانها وأصحابها ما أوقع 500 قتيل عدا الذين قبض عليهم وصلب الكثير منهم إلى أن «ألقي زمام الدولة بيد كبير من موالي السلطان، فقام بها مستبداً وقادها مستقلاً».
نلحظ من خلال تسقط ابن خلدون أخبار المشرق والمغرب ومصر وما بينهما من حوادث وتحولات وتطورات ذلك الرابط الذهني الذي يجمع الديار كلها من الأندلس إلى الشام. فوعي المشترك التاريخي يثير أسئلة كثيرة أهمها: هل بدأ ابن خلدون يفكر في تلك الفترة بمغادرة المغرب؟ وتردد بسبب اضطراب الأمن وكثرة التقلبات التي وصفها في لحظة الانتقال من نهاية عصر مملوكي إلى بداية آخر (كبير من موالي السلطان).
لا يمكن الجزم بذلك لكن تلك الإشارات السريعة تدل على بداية تفكير بالرحيل والانتقال إلى مكان آخر شرط أن يسوده الأمن والاستقرار، أو على الأقل أنه بدأ يفكر بكتابة مؤلف جديد في التاريخ يذكر فيه أخبار المغرب والمشرق ومصر لكنه يحتاج إلى وقت يتفرغ فيه للكتابة وإنضاج أفكاره التي أخذت تقلقه وتطرق ذهنه. فحديثه عن اعتلال الدول وهرمها واستغرابه نجاح غرناطة في تسجيل انتصارات على الخصوم يكشف عن بدايات قلق فكري ناتج عن قراءة مركبة للواقع المضطرب واختلاف رؤيته للزمن عن رؤية صديقه المؤرخ ابن الخطيب. والشك الذي أشار إليه ابن خلدون جاءت الأحداث بعد أكثر من مئة سنة لتؤكده حين سقطت غرناطة (آخر معاقل المسلمين) في الأندلس في العام 897 هجرية (1492 ميلادية). فوعي قوانين التطور وتآلفها في سياق صعود وهبوط الدول جعل ابن خلدون يستغرب حصول الانتصارات بينما تحليله كان يتوقع العكس. فابن خلدون ابتهج لعودة الشوكة للمسلمين لكنه طرح علامات استفهام عن مدى فعاليتها وديمومتها. فهو أخذ في تلك الفترة يفكر بشيء خاص ومختلف وبدأ يتحين الفرص للابتعاد عن السياسة وانشغالاتها والتركيز على قراءة تاريخية مطابقة للواقع.
يمكن طرح أجوبة كثيرة بشأن متى بدأ يفكر ابن خلدون باتخاذ قرار كتابة تاريخه. وحتى الآن لا نمتلك سوى دليل واحد حين حث صديقه ابن الخطيب على إرسال آخر ما صدر من كتب وتصنيفات. فالأمر يشير إلى أنه دخل في فترة تجميع المعلومات وترتيبها، كذلك توحي رسالته إلى بداية ابتكار أسلوب مختلف في قراءة حوادث التاريخ مستخدماً فيه مفردات ومصطلحات واستعارات غير تلك التي كانت سائدة في الخطابات.
يمكن اعتبار رسالة ابن خلدون لصديقه نواة صغيرة لعمله الكبير. فهو مثلاً يعود إلى قصة انتقال الدولة من عصبية مملوكية إلى أخرى ويشرحها مجدداً بعد أن تجمعت المعلومات ورصد تتابع الأخبار. فهو يذكر في كتاب «التعريف» فترة الانتقال تلك بعد أن تبلورت عنده فكرة العصبية ونظرية الدولة الكلية، ذلك أن «الدول الكلية، وهي التي يتعاقب فيها الملوك واحداً بعد واحد في مدة طويلة، قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلبهم، فلايزالون كذلك إلى انقراضهم، وغلب مستحقين آخرين ينزعونه من أيديهم بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى» (ص 591). ويفصل كثيراً نظريته عن انتقال المُلك في عصور المماليك فيتحدث عن أن «البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم، فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها (...) فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع (...) وتصير كأنها دولة أخرى، تمر عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة (عصبية) هؤلاء في النسب أو الولاء» (التعريف، ص 592).
يرى ابن خلدون أن هذا القانون كان مبدأ «هذه الدولة التركية» ويقصد بها الدولة المملوكية في مصر، التي قضت على الدولة الأيوبية التي ملكت مصر والشام عندما «استقل بها كبيرهم صلاح الدين، وشغل بالجهاد وانتزاع القلاع والحصون من أيدي الفرنج الذين ملكوها بالسواحل» (التعريف، ص 592).
ويربط ابن خلدون بين زوال مُلك الدولة الأيوبية بضعف العصبية الأيوبية إذ «كان قليل العصابة، إنما كان عشيره من الكرد يعرفون ببني هَذان، وهم قليلون، وإنما كثر منهم جماعة المسلمين، بهمة الجهاد الذي كان صلاح الدين يدعو إليه، فعظمت عصابته بالمسلمين».
تبدو هنا النظرية كثيرة التعقيد ومركبة من عناصر مختلفة تخضع لشروط المكان والزمان. فأحياناً يمكن أن تقود عصبية قليلة العدد الأمة الإسلامية إذا نجحت في قيادة الجهاد (الدفاع) ضد خطر خارجي، وعندما يقل الخطر ويتراجع الخوف تأخذ تلك العصبية بالتراجع والتفكك السريع. وهذا ما حصل لدولة صلاح الدين بعد وفاته إذ «انقسم مُلك بني أيوب بعده بين ولده وولد أخيه. واستفحل أمرهم واقتسموا مدن الشام ومصر بينهم» (التعريف، ص 592).
استمر التنازع في دولة الأيوبيين إلى أن جاء نجم الدين أيوب ابن العادل شقيق صلاح الدين فأراد «الاستكثار من العصابة (العصبية) لحماية الدولة (...) وان ذلك يحصل باتخاذ المماليك والإكثار منهم، كما كان آخراً في الدولة العباسية ببغداد». وأخذ التجار في جلبهم إليه واشترى منهم أعداداً وبدأ بتربيتهم وتعليمهم حرفة الجندية والآداب الدينية إلى أن كثر عددهم وازداد وزنهم في الدولة فتغلبوا على الأيوبيين و«استحدثوا هذه الدولة التركية» (التعريف، ص 593).
ليس القصد هنا شرح نظريات ابن خلدون عن الدولة (من صعودها إلى هبوطها) والعصبية (من خشونتها إلى ضعفها) بل محاولة الربط بين تبلور الفكرة في (المقدمة) وإعادة شرحها في (التعريف) بتلك البدايات التأسيسية التي ظهرت إشاراتها السريعة في الرسالة الجوابية التي بعث بها إلى صديقه الوزير المؤرخ الذي أحدث رحيله (قتله في السجن) صدمة عنيفة قرر بعدها التقاعد والتفرغ لكتابة التاريخ.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 3031 - الخميس 23 ديسمبر 2010م الموافق 17 محرم 1432هـ